كم أنا مكسوف

TT

أحيانا تأخذني (الرغبة)، وما أكثر ما تأخذني هذه الرغبة الخبيثة للمجهول والمعلوم معا، فأحيانا تأخذني على سبيل المثال إلى عالم (والت ديزني)، وأحيانا على النقيض من ذلك تأخذني إلى عالم (ابن بطوطة)، وأحيانا إلى عوالم ما وراء (حرب النجوم)، وأروع من ذلك كله ما أكثر ما أخذتني رغبتي المجنونة لعالم الزمن الجميل، حيث (بديعة مصابني)، وسلطانة الطرب (منيرة المهدية)، والراقصة اللولبية (فتحية شخلع).

وبما أن لدي هذه الرغبة الشبقة في المعرفة والتجريب، كان لزاما عليّ مداومة القراءات والمقارنات والخيال الشاطح الذي لا يستقر على حال، ولا يقبل بأنصاف الحلول ولا في عدد (الكيلومترات) ولا حتى بالحدود، إنه الشبق الأعمى ولا شيء غيره، أعاذكم الله منه، وحفظ لكم أولادكم وأحبابكم، وسدد على طريق الحق خطاكم.

ومن قراءاتي شبه الموثقة في هذا الأيام، فقد علمت أن فراعنة هرم (خوفو) قد بنوه بعدد ساعات مهولة امتدت لما يزيد على عشرين سنة، واليوم من الممكن أن يبنى بالوسائل الحديثة بأقل من (واحد في المائة) من ناحية الجهد ومن ناحية الوقت، كما أنه قبل ثلاثة قرون فقط من الآن كان الإنسان يقطع المسافة من مرسيليا إلى باريس في (17) يوما كاملا، وفي هذه السنة قطعتها أنا بالطائرة بأقل من ساعة - أي أقل من (ربع في المائة)، ولم أتمم وقتها شرب كأس البرتقال الذي أمامي، ولم أتمم كذلك حديثي الممتع مع المضيفة الحسناء التي قطعت هي حديثها معي لتنبهني لأن أربط حزامي المفكوك استعدادا للهبوط في مطار (شارل ديغول)، مع أنني وقتها تمنيت لو أن الرحلة امتدت (24) ساعة.

على أية حال صدقوني أن إنسان اليوم مقارنة بإنسان الأمس يعيش في دلع ما بعده دلع، غير أن الإنسان كان وما زال وسيبقى (جهولا ظلوما)، ولولا ذلك (لتتربست) حياته ولظل طوال عمره وتاريخه (مبلّطا) وجالسا بكل غباء فوق ما يفرزه من نفايات قذرة.

ولكي لا أورط نفسي أكثر (بالفلسفة) العقلانية غير اللائقة لي، فلا بد وأن أقلب (الموجة) وأرجع (لهذري) المعتاد الذي يستهوي حياتي (الخربانة) وأقول:

ولو أن أحد خلفاء بني العباسي أراد أن يقيم حفلة (عرمرمية) ماتعة، فلا بد له والحال كذلك أن يوقد على الأقل ألف شمعة، ويستحضر مائة عازف، وعشرات المغنيات والراقصات، ناهيك بالخدم والحشم والغلمان والذي منه.

وأنا اليوم أستطيع بكل بساطة أن أصبح كأي (ابن مروان) مزيف، وأن أجلس على مقعدي معززا غير مكرم، وبيدي (الريموت كنترول) أتنقل بين جميع محطات (تلفزيونات) الكرة الأرضية مثلما ينتقل الجرذ بين جحوره، وفوق رأسي أنوار مشعشعة لا تنطفئ ولا تذبل، وراقصات ومغنيات هن على كيف كيفي؛ إن أردت (مادونا) أتيت بها وجعلتها ونيسة لي، أو (شاكيرا) تمتعت بغنائها ورقصها وهي مقبلة مدبرة، أو (هيفاء وهبي) وهي جالسة أمامي تصدح (تبوس الواوا)، أو حتى طيبة الذكر (أحلام) أتركها واقفة أمامي لكي أتأمل فقط في فستانها (الشيك) الممتلئ والمرصع (بالفصوص)، وكلهن وعن بكرة أبيهن يقلن لي: (شبيك لبيك)، يا ميشو.

لا أدري كيف بدأت مقالي هذا جادا وأنهيته خائبا؟! يا الله.. كم أنا مكسوف!!

[email protected]