لكل بيت بالوعة

TT

بينما كنت أقرأ المقالة التي كتبها الصديق العزيز خالد القشطيني في «الشرق الأوسط» عن قصة البالوعة، قلت لنفسي: هذه معاناة ومأساة من مآسي التاريخ تلخصت في مقالة قصيرة. وقد أعدت قراءة تلك المقالة عدة مرات، وأنا أتأمل في ثورتنا الإيرانية، ثم ثورات الربيع العربي، أو الصحوة الإسلامية التي عمت أرجاء المنطقة.

وكما لا بد أنكم تعلمون، فهناك مثل سوري يقول: لكل بيت بالوعة. ويشرح «مختار الصحاح» كلمة بالوعة بأنها «ثقب في وسط الدار، والجمع بلاليع، وبالوعة لغة أهل البصرة»، ويبدو كما لو أن الكلمات قد هاجرت عبر الحدود، مثل البشر تماما، وانتقلت من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى، وليست الكلمات وحدها هي التي ترتحل، بل إن الأمثال والقصائد والنوادر، وحتى الموسيقى والألحان، ترتحل هي الأخرى بين شتى بقاع العالم.

أليس بإمكاننا أن نشبه أمتنا بجد مظفر النواب (الذي أنفق ثلاث ليرات ذهبية من أجل استخراج ليرة ذهبية واحدة سقطت منه في البالوعة؟) لقد علقت العبارة الأخيرة من مقالة القشطيني في رأسي مثل علامة الاستفهام.

وأثناء هروب مظفر النواب من العراق، ذهب إلى الأهواز عن طريق البصرة، إلا أن أجهزة الأمن الإيرانية ألقت القبض عليه، وهو يروي كيف تم تعذيبه على يد جهاز استخبارات الشاه (الذي كان معروفا حينها باسم السافاك) قائلا:

في طهران وقفت أمام الغول

تناوبني بالسوط وبالأحذة الضخمة

عشرة جلادن

وکان کبر الجلادن له عنان

کبتي نمل أبض مطفأتن

وشعر خنازر نبت من منخره

وفي شفته مخاط من کلمات

کان قطرها في أذني

وسألني: من أنت؟

خجلت أقول له

قاومت الاستعمار فشردني وطني

غامت عناي من التعذب.

وقد كان يتم تبرير هذا الاستبداد في إيران عن طريق نشر الخرافات، حيث كان الشاه يصور نفسه على أنه ظل الله، وكانت العقليات الصبيانية تنظر إليه على أنه «سوبر مان» أو الرجل الخارق.

وأود هنا أن أبرز العلاقة الوثيقة بين الخرافات والاستبداد، حيث يتساءل القشطيني: «فأقول وأظل أتساءل وأنبش في دماغي وأتبلبل: كيف سلمنا مقاديرنا ومستقبلنا بيد مثل هؤلاء الأميين ليأتونا بحكومات من المتخلفين؟».

وفي رأيي أنه لا توجد بالوعات أو ثغرات في بلداننا فحسب، بل توجد بالوعة كبيرة داخل نفوسنا أيضا، ويقدم الشطر الأول من السؤال الإجابة عن الشطر الثاني منه، فنحن لدينا الكثير جدا من الأميين، وبالتالي صرنا نشهد مثل هذه الحكومات الرجعية. وكما يقال في علم المنطق: هذه قضية قياسها معها.

وبعد انتصار الثورة في إيران، ألقى أحد الشعراء الشباب قصيدة قصيرة أمام ندوة ثقافية، وتعرض وقتها للكثير من الانتقادات، بل ولامه البعض عليها، حيث قال فيها: «كل الأسهم التي كانت تلقى على الطغيان والاستبداد لم تكن تلقى من جعبة الوعي».

يا للأسف!

علينا أولا أن نبدأ في استهداف الجهل وتصفيته، فالجهل هو الدافع الرئيسي للاستبداد، بل هو بمثابة الجذور والأرض الخصبة والأب والأم بالنسبة للاستبداد، وأكبر رمز للجهل هو الخرافة. صحيح أن الغرب تمكن نظريا وفلسفيا من حل مشكلة الخرافة، لكن الواقع يقول إن هذه المشكلة ما زالت تعيش بيننا.

وقد كانت معارضة الخرافة هي الشغل الشاغل للمفكرين والمثقفين في القرن الثامن عشر، الذي عرف بعصر التنوير، حيث كان الفلاسفة في ذلك العصر يسخرون من أي اعتقاد في المعجزات أو السحر أو ما وراء الطبيعة، ويصفونها بأنها خرافات، وقد كان ذلك يشمل بطبيعة الحال معظم العقيدة المسيحية كذلك.

لماذا إذن لا تزال الخرافة تعيش بيننا؟ دعوني أتساءل: لماذا يحظى أسلوب غارسيا ماركيز الأدبي بترحاب العالم أجمع؟ لأننا نستمتع بالواقعية المرتبطة بالسحر، مثلما يحب الأطفال قصص هاري بوتر - لأننا في الغالب لدينا بالوعة داخل نفوسنا، أو داخل بلداننا.

وبكل أسف، فإن الأديان تلعب دورا في غاية الأهمية في هذا الصدد، فعلى غرار الإله جانوس في الأساطير الإغريقية، الذي اشتقت منه تسمية شهر يناير (كانون الثاني)، هناك وجهان للدين: وجه يقوم على الحكمة والعقل، والآخر يقوم على الخرافات، وطبقا للمعتقدات الدينية والأساطير اليونانية والرومانية القديمة، فقد كان جانوس هو حارس بوابة السماء وإله الأبواب، وكان له وجهان، واحد ينظر إلى الماضي والآخر ينظر إلى المستقبل، وقد سمي الشهر الأول من السنة الرومانية باسمه، بوصفه بوابة عبور للسنة الجديدة.

وفي بعض المناطق في إيران وتركيا، يمكنك أن ترى قرون الأيل معلقة أعلى حافة مدخل المنزل، لأن قرن الأيل في معتقداتهم يرمز إلى الحظ والفأل الحسن، كما يمكن أن ترى أحيانا حدوة حصان معلقة على الحائط، لكنها لا تحتوي على أي ثقوب.

وقد جعلني هذا أفكر في جذور ومصدر مثل هذه التصورات والسلوكيات، وللعلامة فتح الله الكراجكي كتاب غريب بعنوان «كتاب التعجب»، ألفه في عهد يزيد بن معاوية، فبعد مقتل الحسين بن علي وعائلته وأتباعه، عاد بعض الجنود إلى الشام وقاموا ببيع حدوات خيولهم في السوق، علامة على تأييدهم ليزيد وجيوشه، ونتيجة لهذا، شح عدد الحدوات المتوافر في السوق، ومن ثم كانت هذه فرصة جيدة أن يبيع الناس حدوات مزيفة، وبعد فترة طويلة، تحولت حدوات الخيول إلى تميمة للفأل الحسن، في مثال واضح للبالوعة.

وقد روى الكراجكي قصة بني السرج فقال: «وأما بنو السرج، فأولاد الذين أسرجت خيلهم لدوس جسد الحسين بن علي عليه السلام، ووصل بعض هذه الخيول إلى الشام وإلى مصر، فقلعت نعالها من حوافرها وسمرت على أبواب الدور ليتبرك بها، وجرت بذلك السنة عندهم حتى صاروا يتعمدون عمل نظيرها على أبواب دور أكثرهم» (العلامة فتح الله الكراجكي، كتاب التعجب، ص 46).

ويبدو أن هناك علاقة متبادلة بين الخرافة والاستبداد، حيث إن الخرافة تغذي الاستبداد والاستبداد يرسخ الخرافة، ومن الغريب أن قدرة الخرافة تشبه قدرة العلم، إذ يقول الإمام علي: «كل إناء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع به».

وفي هذه المقارنة، تبدو الخرافة مثل العلم تماما، ويبدو أننا بحاجة، قبل كل شيء، إلى إزالة هذه المعتقدات والطقوس من ذهننا ومن حياتنا. علينا أن نملأ البالوعة، فهي السبب الرئيسي في كل كوارثنا وأزماتنا.