رؤية السياسة الخارجية الأميركية تجاه الأكراد

TT

لقد بدت أهمية القضية الكردية واضحة في منطقة الشرق الأوسط المضطربة، وأصبح دورها النشط في السياسة الإقليمية والدولية، وسياسة الولايات المتحدة الخارجية في الشرق الأوسط على وجه الخصوص أكثر وضوحا من خلال اللقاء الأخير بين رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني والرئيس الأميركي باراك أوباما بواشنطن في أبريل (نيسان) الماضي، وكان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان التقى مع بارزاني في 19 أبريل الماضي ورحب به بصفته رئيسا لإقليم كردستان بدلا من «زعيم قبيلة» كما كان يستقبل عام 2007.

هناك خمس مراحل من العلاقة بين الولايات المتحدة وأكراد العراق، وهي الحركة الكردية الوحيدة التي لها في الوقت الحالي علاقة تفاعلية مع الولايات المتحدة والتي توازي المراحل الخمس للسياسة الخارجية الأميركية تجاه الأكراد بالدول الأخرى في الشرق الأوسط، إذ أن علاقات الولايات المتحدة مع أكراد تركيا في طور النشوء لتصبح علاقة تفاعلية، وربما هناك فرصة لإعطاء دفعة إضافية للقضية الكردية في تركيا، في حين أن الاتصالات، وبعض الأحيان المساعدات من قبل الولايات المتحدة للكرد في إيران وسوريا بدأت فقط في حقبة ما بعد صدام حسين.

وعلى الرغم من أن اهتمام الولايات المتحدة بالجهات الفاعلة التي ليست لها دول مستقلة بدأ في مؤتمر باريس عام 1919، فإن اهتمام أميركا بقضايا الأقليات كان محدودا، حيث إن اهتمام الولايات المتحدة بالقضية الكردية في إيران ومراقبتها للتقارب السوفياتي مع الكرد يوضح طبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة والأكراد خلال بدايات الحرب الباردة، ويبرر ابتعاد الولايات المتحدة لفترة طويلة عن مسرح منطقة الشرق الأوسط حتى الأربعينات.

هذا التحول في السياسة الخارجية للولايات المتحدة من موقف العزلة تجاه الشؤون الدولية إلى التفاعل، ازداد مباشرة بعد أن لاحظت أميركا تمدد الشيوعية في المنطقة، وهذا أدى إلى اهتمام الولايات المتحدة لدور الأكراد في العراق. إن «توأم ركائز» سياسة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون خلال الفترة من 1969 - 1974 الذي شرع في التغيير الثاني في السياسة الخارجية الأميركية، يلخص استراتيجية الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط. وتوظيف الولايات المتحدة لعلاقتها القوية في تلك الفترة مع دول إقليمية محددة (إيران، المملكة العربية السعودية) والجهات التي ليست لها دولة (أكراد العراق) خدمت أهداف الولايات المتحدة لممارسة الرقابة غير المباشرة في الشرق الأوسط.

يبدو جليا أن الولايات المتحدة لها مصلحة مع الجهات الفاعلة التي لا تمتلك دولة، سواء كانت جماعات دينية أم عرقية، ويبرز هذا جليا في سرية المساعدات الاقتصادية التي قدمتها الولايات المتحدة لأكراد العراق في أغسطس (آب) 1969 لحماية المنطقة من توسع الاتحاد السوفياتي ومن إضعاف العراق لحليف الاتحاد السوفياتي في تلك الفترة. لذا كانت اتصالات الولايات المتحدة مع الأكراد تقتصر على أكراد العراق فقط. هذه كانت المرحلة الأولى من العلاقات بين الولايات المتحدة والأكراد، وهو تطور تنبغي قراءته من خلال الأحداث في المنطقة في سياق مناخ الحرب الباردة.

تطورت الاتصالات الأولية المحدودة بين الولايات المتحدة وأكراد العراق - التي بدأت على أساس إنساني في شكل مساعدات اقتصادية - إلى وجود علاقة سرية ولكن مباشرة بين الطرفين ووصلت إلى المستوى الرسمي في يوليو (تموز) 1972 نتيجة عدد من العوامل. وكانت هذه العوامل هي التي جعلت وجود الأكراد مفيدا بوصفها أداة للموازنة، من بين أمور أخرى، وهي التغلغل السوفياتي في كل من إيران والعراق، ووقوف الولايات المتحدة إلى جانب إيران بوصفها الركيزة الثانية لاستراتيجية نيكسون ضد الشيوعية السوفياتية والنظام العراقي البعثي، بالإضافة إلى سياسات صدام حسين القومية وسياسات التأميم ومعاهدة الصداقة بين العراق والاتحاد السوفياتي عام 1972؛ حيث بدأ في فترة ما بعد الحرب الباردة عصر جديد للدولة في السياسة الدولية.

زادت حرب الخليج عام 1991 العلاقة التفاعلية بين الولايات المتحدة وأكراد العراق، وهي المرحلة الثالثة في هذه العلاقة، التي تحولت إلى علاقات واسعة ورسمية وعلنية في عام 1992، وبلغت ذروتها في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)؛ حيث رأت أميركا أن إقامة علاقات مستقرة ومؤسسية مع الأكراد لها أهمية استراتيجية بالنسبة لمصالحها في المنطقة. كما أن رفض تركيا المشاركة بشكل حيوي في الحرب على العراق عام 2003 أدى إلى بروز دور الكرد الإقليمي، وتطورت في النهاية إلى بلورة سياسة الولايات المتحدة تجاه القضية الكردية ضمن إطار الدولة العراقية في حقبة ما بعد صدام، وبالتالي تعتبر هذه المرحلة الخامسة من العلاقات بينهما.

بعد مرحلة أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، تصرفت حكومة إقليم كردستان بصفتها كيانا يتمتع بحكم شبه ذاتي وبشكل أكثر استقلالية في علاقتها مع الولايات المتحدة. إن توقيع العقود النفطية بشكل فردي مع الشركات الأجنبية؛ ومنها الأميركية، وكذلك دور الأكراد الإقليمي والدولي، يشير إلى بداية الاعتراف بدورهم الديناميكي والحيوي في السياسة الدولية، المدعوم من قبل الولايات المتحدة والقوى الإقليمية والدولية.

وبالتالي، ينبغي ربط سياسة الولايات المتحدة في علاقتها مع الكرد من خلال تطورات السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ويجب تحليل هذه الفترة من خلال سياسة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون نحو بناء نموذج واضح من التدخل الإقليمي ووضع الأساس لسياسة «الاحتواء» من جانب الولايات المتحدة وبعض الأطراف الفاعلة في المجتمع الدولي تجاه العراق من خلال قانون تحرير العراق، ومواجهة الجماعات الإرهابية خاصة بعد 11 سبتمبر، وهو التغيير الخامس في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وظهر هذا التغيير من خلال سياسات إدارة جورج دبليو بوش لإزالة صدام حسين، والانفتاح الواضح من قبل الولايات المتحدة تجاه أكراد العراق، حليفها في المنطقة، وتحولت من سياستها التقليدية في «الاحتواء» إلى دمقرطة المنطقة التي نتجت بداية من تدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

المراحل الخمس للعلاقة بين الولايات المتحدة والأكراد، التي تطرقت إليها بالتفصيل في كتابي عن الموضوع، إنما هي جزء من السياسة الخارجية الأميركية في إدارة جورج دبليو بوش، حيت تظهر الدور الفعال لأكراد العراق - بوصفهم كيانا ليست لديه دولة مستقلة - وهم جزء حيوي من التطورات التي ظهرت في السياسة الخارجية الأميركية لحقبة ما بعد سقوط صدام حسين.

* باحثة يونانية في شؤون الشرق الأوسط بمعهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة «إكستر» البريطانية