لبنان.. وطن يفرغ من «الكبار»

TT

«واجب القيادة أن تخلق قيادات لا أن تنتج أتباعا»

(رالف نادر)

بينما يواصل الرئيس السوري بشار الأسد «حواره» مع شعبه بالمجازر وحمّامات الدم، انشغل الرئيس اللبناني ميشال سليمان بدعوة قادة لبنان إلى المشاركة في «جلسة حوار وطني» منتظر عقدت أمس.

ليس هناك تناقض صارخ أكثر من هذا التناقض بين كيانين توأمين.

فهناك في دمشق رئيس تسلّطي يعتبر الحكم احتكارا عائليا أبديا في وطن «دعائمه الجماجم والدم» (كما قال أحد كبار شعراء العرب المعاصرين). وهنا في بيروت رئيس توافقي يلعب دور حَكَم ملعب بلا صافرة ولا بطاقات صفراء أو حمراء.. في «دولة طوائف» فيها من نفوذ الطوائف - بل قُل الطائفة الواحدة - أكثر بكثير مما تحمله من ملامح الدولة، بل هو أصلا جاء إلى الرئاسة بموجب «اتفاق - خديعة» سرعان ما انقلب عليه المتحكمون بالطائفة المهيمنة بمساعدة عملائهم الصغار.

هناك في دمشق سلطة فئوية تزعم أنها علمانية وتقدمية (؟) في حين أنها تشكّل امتدادا لمشروع إقليمي طائفي مدعوم تكتيكيا - وبوقاحة غير مسبوقة - من قوتين عالميتين لم تعرفا الديمقراطية وحقوق الإنسان يوما في تاريخيهما الطويلين. لا يمينا ولا يسارا. وهنا في بيروت «تمثيلية» لها واجهة سلطة ممثلوها يتحركون وفق «سيناريو» أعد لهم.. ولا قدرة لهم على شطب كلمة منه.

اليوم، وسط المجازر التي يزرعها نظام دمشق بحقد مريب على امتداد أراضي سوريا، اجتمع في أراضي لبنان مَن يُفترض بهم أنهم قادة الأطياف اللبنانية المختلفة للانخراط في «حوار» كل المعنيين به يدركون سلفا أنه «حوار طرشان» لم يفضِ في الماضي، ولن يفضي في المستقبل، إلى أي نتيجة. وعلى رأس هؤلاء من دعا إلى الحوار.. أي الرئيس سليمان نفسه، الرئيس الممنوع من ممارسة الرئاسة، والمحاصَر بسلاح غيره، والمعرّض لسهام قيادات مشبوهة وحقودة من قلب طائفته.

لقد كان منظر الرئيس سليمان - مع الاحترام لشخصه - مثيرا للشفقة وهو يجول قبل ايام على عواصم دول الخليج مستجديا التفهم والزوار والمصطافين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من اقتصاد منهار قد يعجل في انهياره فشل موسم الاصطياف، وما لهذا الفشل المحتمل من تبعات على قطاع الخدمات الحيوي في لبنان.

غير أن سليمان يعرف، قبل غيره، السبب الوجيه وراء طلب حكومات دول الخليج من مواطنيها تحاشي زيارة لبنان. في حين أن «المتحاورين» ينقسمون إلى فئتين: الفئة الأولى استحوَذ أبرز أطرافها على مفاصل السلطة بقوة السلاح، وبالتالي، لا يمكن أن تقبل بأي تعديل في ميزان القوى المحسوم لصالحها. والفئة الثانية يقدر معظم مكوناتها ظروف الرئيس المغلوب على أمره، ويرى أنه من المفيد للبلاد ككل تعزيز صمود الرئيس - ولو مؤقتا - في وجه قوى الهيمنة الطامعين بإلغاء الدولة ومؤسساتها، وربط لبنان بالمنظومة الإقليمية الإيرانية، التي تدعمها موسكو وبكين نكاية بواشنطن.. وتغض الطرف عنها تل أبيب.

خلال الأسبوع الفائت، تنادت الهيئات الاقتصادية اللبنانية لإطلاق نداء استغاثة في مؤتمر هو الأول من نوعه في بيروت. وأمام الحضور قال أحد المتكلمين باللهجة العامية، ولكن بحرقة واضحة، ما معناه أن على السلطة أن تقرر أي اقتصاد تريد؟ وهل في لبنان «اقتصاد سلم» أم «اقتصاد حرب»؟ مشيرا بصدق إلى أنه يستحيل تطبيق السياسات المالية المألوفة في «اقتصاد السلم»، على ما غدا فعليا «اقتصاد حرب»!

بصفة عامة، يجوز القول إن اقتصاديي لبنان نجحوا، بفضل صدقهم مع أنفسهم وواقعيتهم، وطبعا حصافتهم المهنية، في الصمود بوجه ظروف عاتية غير مواتية لفترة طويلة نسبيا. غير أن نداء الاستغاثة هذا يشير إلى أن التحديات التي يواجهونها اليوم، وسط الجو الإقليمي الخطير، غدت أكبر منهم.

هذه الصفات الإيجابية، مع الأسف، ما عادت تتوافر في غالبية السياسيين الناشطين على الساحة اللبنانية. ولذا كان بديهيا استمرار التخبط السياسي، بل قل الانحدار السياسي، بينما تمكن قادة الاقتصاد حتى اللحظة في تجاوز ويلات حرب ضروس طالت نحو 15 سنة، ودمرت البشر والحجر.

وبالأمس، مع غياب غسان تويني، أحد عمالقة السياسة والإعلام والفكر في لبنان والعالم العربي، يستمر أفول القيادات والشخصيات الفكرية اللامعة التي أسهمت في بناء ثقافة الحرية والتعددية في لبنان.. تاركة البلاد في عهدة زُمر لا تؤتمَن على دكان صغير.. فما بالك على وطن ومواطنين؟

مع غياب غسان تويني، وقبله نصير الأسعد وقبله نسيب لحود خلال الأشهر القليلة الماضية.. تتقلص كثيرا المساحة التي يشغلها «الكبار». ويتمدّد مستنقع «صغار الصغار» ويزداد نتنا.

في سبتمبر (أيلول) من عام 1972، كان غسان تويني أحد خطباء حفل تقليد راحل كبير آخر، هو الزعيم كمال جنبلاط، «وسام لينين» في قصر اليونيسكو ببيروت، مع العلم أن العلاقة بين الرجلين في حينه كانت تمر بمرحلة فتور. ويومها وقف تويني، بحضوره وبلاغته المعهودين، ليستهل خطابه بكلمات: «يا حليفي حينا وخصمي حينا وصديقي في كل حين».

رجال من هذا الوزن، شرفاء في العداء وشرفاء في التحالف، يجمعهم على الدوام الاحترام المتبادل، يفتقدهم ويفتقر إليهم لبنان وسوريا اليوم.

أمثال هؤلاء فقط يعرفون معنى الحوار، ويقدرون مسؤوليات التعايش، ويتجاوزون أحقاد الدماء. أما الدمى فلا تستطيع أن تكون إلا دمى يحركها الآخرون.