قطاع الأعمال يظل مزدهرا ما دام الناس يسافرون

TT

حققت عطلة نهاية الأسبوع التي تم الاحتفال خلالها باليوبيل الماسي نجاحا كبيرا في بريطانيا، فقد كانت السماء ملبدة بالغيوم والأمطار تهطل على بعض أنحاء البلاد، إلا أن الناس أصروا على تحية الملكة خلال أيام الاحتفال الأربعة. واصطف ما يزيد على مليون شخص على نهر التيمس من أجل مشاهدة العروض النهرية، واندفع مئات الآلاف نحو شارع مول المؤدي إلى قصر باكنغهام لإلقاء نظرة على العائلة المالكة. وقال جون كي، رئيس وزراء نيوزيلندا، وهي إحدى الدول الست عشرة التي ترأسها الملكة، إن احتفالات اليوبيل أظهرت التدفق العفوي لمشاعر الشعب. وأضاف: «لقد أراد الشعب التعبير عن إعجابه بالملكة واحترامه لما قامت به من أعمال». وأعلن كل من ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني، وبوريس جونسون عمدة لندن، الأسبوع الحالي، أن تنظيم لندن لاحتفالات اليوبيل الماسي خلال الأسبوع الحالي وضع معيارا عالميا لدورة الألعاب الأوليمبية. تجذبنا الآن مرة أخرى المشاكل التي تعانيها منطقة اليورو والتكهنات بما ستحمله لنا الأيام المقبلة. هناك أشكال مختلفة من التقارير التي ترد كل ساعة، لكن الكثير منها ليس أكثر من نميمة. لذا فمن قبيل إضفاء بعض المرح وبعد آخر للأحداث، ألقيت نظرة سريعة على بيانات حركة الجوية في المطارات الأوروبية خلال شهر أبريل، وهو ما يشير إلى أن الحديث عن انهيار اقتصاد أوروبا أمر مبالغ فيه. لقد انخرطت لسنوات عديدة في مجال الملاحة الجوية، حيث عملت مستشارا في خصخصة المطارات ووضع خطط عمل شركات الطيران وما إلى ذلك. بطبيعة الحال هذا المقال ليس ورقة بحثية، لكن لا يزال السياسيون الأوروبيون يحاولون جاهدين التعامل مع أزمة الديون في دول أوروبية عدة. لقد استعنت بتوجهات المسافرين جوا في أوروبا كمعيار للتنبؤ بالتنمية الاقتصادية.

واعتمدت في ذلك على قاعدة بيانات «آنا آيرو» الكبيرة الخاصة بحركة الطيران في مارس (آذار) وأبريل (نيسان) التي تضم ما يزيد على 300 مطار في أنحاء أوروبا. إنها توضح زيادة في حركة المطارات في أبريل عام 2012 مقارنة بعام 2011، ولا يزال هذا يتطابق مع التحليل نفسه في مارس 2012.

وتقع 11 دولة من بين التسع عشرة دولة التي شملها التحليل من ضمن دول منطقة اليورو، بينما ثمانية من خارج منطقة اليورو. بالنظر إلى بعض المخاطر المبالغ فيها المتمثلة في قرب حدوث انهيار اقتصادي، من المشجع أن نرى ازدهارا في حركة الطيران، التي كانت في الماضي مؤشرا جيدا على ازدهار النشاط الاقتصادي في 13 دولة خلال شهري مارس وأبريل. إذا كان الناس لا يزالون يسافرون، فهذا يعني أن قطاع الأعمال لا يزال مزدهرا. وهناك اهتمام بأزمة الديون على مستوى العالم.

أجريت مقابلة الأسبوع الماضي في لندن مع قناة «العراقية»، التابعة للتلفزيون العراقي. وتنتج المحطة مجموعة من البرامج المتعلقة بأزمة الديون، خاصة في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي أصبحت أضعف اقتصاديا بعد الأزمة المالية، وهي البرتغال وإيطاليا واليونان وإسبانيا، ويعد هذا الوصف انتقاصا من قدرة تلك الدول. وعلى عكس بريطانيا، تستخدم هذه الدول اليورو وغير قادرة على تطبيق سياسية نقدية مستقلة لمقاومة ما تعانيه من تراجع اقتصادي. سعر فائدة الديون البريطانية على السندات ذات أجل عشر سنوات أقل من 2 في المائة، في حين ارتفعت تلك النسبة في بعض الدول الأخرى عن 6 في المائة. لا أشعر بارتياح لوصف تلك الدول السابق ذكرها بهذا الوصف، وأخبرت أحمد ياسين، الذي أجرى معي المقابلة، بأن هذا الوصف غير إنساني. على أي حال يعد جمع تلك الدول تحت تصنيف واحد تبسيطا مخلا. ويعد هذا التوصيف نزوة تحريرية ومحاولة لمحاكاة مصطلح «الدول ذات الاقتصادات الناشئة».

وصك روبرت وورد، من وحدة الاستخبارات الاقتصادية التابعة لـ«إيكونوميست غروب»، في نهاية عام 2009 مصطلح «سيفيتيس» للإشارة إلى كولومبيا وإندونيسيا وفيتنام ومصر وتركيا وجنوب أفريقيا. وهو إشارة إلى مصطلح «الدول ذات الاقتصادات الناشئة» المفضل. وصك جيم أونيل، رئيس مصرف «غولدمان ساكس»، مصطلح «بريكس» في ورقة بحثية بعنوان «العالم بحاجة إلى (بريكس) اقتصادي أفضل». وهذا المصطلح اختصار لدول البرازيل وروسيا والهند والصين التي تعد في مرحلة مشابهة لمرحلة التنمية الاقتصادية المتقدمة.

هناك بعض الاختلافات الرئيسية بين هذه الدول. وتحتل البرتغال في الاتحاد الأوروبي المركز السابع عشر، بينما تحتل آيرلندا المركز الخامس عشر، واليونان المركز الثالث عشر من حيث الحجم، وتعد ذات اقتصاد صغير نسبيا، في حين تحتل إيطاليا المركز الرابع، وإسبانيا المركز الخامس وتعد أكبر من أن يسمح بانهيارها. ولم يتم إنقاذ سوى الدول الثلاث الصغيرة حتى هذه اللحظة.

من أسوأ المشكلات التكهنات من جانب كل الجهات التي تؤدي بدورها إلى تقويض ثقة السوق. وغالبا ما يغيب التحليل العميق. نحن نتحدث عن أزمة في القطاع المصرفي الإسباني وكأن كل الأزمات المصرفية متشابهة، في حين أنها ليست كذلك. وتحتاج المصارف الإسبانية إلى ضخ 40 مليار يورو (50 مليار دولار أو 32 مليار جنيه إسترليني) على الأقل بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي. مع ذلك صرح صندوق النقد الدولي يوم الجمعة بأن اختبار التحمل أوضح حسن إدارة القطاع المالي الإسباني، لكنه أوضح ضعفه في الوقت ذاته. من غير المرجح أن يدلي صندوق النقد الدولي بتصريح مماثل عن اليونان. وربما تتضمن أي خطة إنقاذ لإسبانيا تزويد الحكومة الإسبانية بالمال، ومن بعدها المصارف المتعثرة. ونظرا لإعلان الحكومة الإسبانية إجراء إصلاحات مالية صارمة، فمن المرجح أن لا يتضمن الاتفاق شروطا كثيرة، على عكس خطة إنقاذ اليونان والبرتغال وآيرلندا المتخمة بالشروط والقيود. مع ذلك ما سبب أزمة المصارف الإسبانية؟ من أهم الأسباب الخوف من ثقل عبء الديون الذي تعانيه مناطق الحكم الذاتي في إسبانيا منذ سنوات. وقد أوضحت الأسبوع الماضي أنه يجب على كل دولة خلق ميزة تنافسية لها، ويعني هذا تحليلا جادا ومتأنيا لما هو ضروري ومفيد ويمكن القيام به.

ربما لا يكون هذا دائما الاتجاه الذي تتطلع إليه كل من إسبانيا والبرتغال. ونظام إسبانيا فيدرالي، حيث تتكون من 17 منطقة تتمتع بالحكم الذاتي، وتشبه بذلك وضع الإمارات العربية المتحدة إلى حد كبير. ويعد هذا من أسباب المشكلات المالية التي تعانيها إسبانيا.

بحسب لياتسير مويكس، مؤلف «المعمار المعجز»، جعل نجاح متحف غوغنهايم بلباو، الذي يجذب ملايين الزوار سنويا، من إقليم الباسك، موضع «حسد ثقافي» بين المدن الإسبانية الأخرى. ويشبه ذلك طريقة تفكير شخص يقول: «جاري لديه مرافق جديدة، وأنا أريد مثلها، أو على الأرجح أفضل منها» كما أوضح لياتسير. ويعد هذا بمثابة تحذير لكل دولة بالانتباه قبل بداية مشاريع غرضها «التباهي».

وشهدت المشاريع الثقافية الكبيرة والبنية التحتية للمواصلات في إسبانيا نموا كبيرا خلال سنوات الازدهار. انتهى العمل في مطار جديد تبلغ تكلفته 150 مليون يورو في فالنسيا، التي تتمتع بالحكم الذاتي في شرق إسبانيا، وتم الانتهاء منه في شهر مارس من العام الماضي، لكن لم تحط طائرة واحدة على مدرج المطار. وفي مدينة ثيوداد ريال، التي لا تبعد كثيرا بالقطار عن جنوب مدريد، هناك مطار آخر تكلف كثيرا لكنه خاو على عروشه. وهناك دروس مستفادة لدول أخرى.

لا ينبغي أن ننسى أن أوروبا ككل تمثل أكبر اقتصاد على مستوى العالم، حيث يفوق اقتصادها الاقتصاد الأميركي. من الأمور الباعثة على التفاؤل انخفاض أسعار النفط الذي من شأنه أن يكون عاملا في تحفيز النمو. وفي ظل القلق من تباطؤ الاقتصاد، خاصة في الصين، انخفضت أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها منذ 17 شهرا. وانخفضت أسعار النفط إلى 98.06 دولار، وهو أدنى مستوى لها في لندن منذ 17 شهرا. كذلك انخفض سعر النفط المعياري في الولايات المتحدة بنسبة 1.4 في المائة، بحيث وصل إلى 82 دولارا قبل تعافي الاقتصاد. ووصل سعر نفط برنت الخام عند الإغلاق إلى 99.47 دولار، لكنه لا يزال أدنى من مستواه المرتفع خلال مارس بنسبة 25 في المائة. ويتوافق هذا مع اعتقاد المملكة العربية السعودية في وجود سعر نفط مثالي. لقد ارتفع سعر النفط كثيرا ولن يعود هذا بالنفع على المنتجين، حيث لن يشتري الناس النفط. مع ذلك يمكن أن يؤدي انخفاض سعر الوقود وتكلفة المواد الخام إلى انخفاض فواتير الشركات والقطاع المنزلي، وربما يشجع هذا المستهلكين على القيام بدور أكثر فعالية. ويمكن أن يساهم ذلك، أكثر من الجدل السياسي الذي يعصف بالبلاد، في تعزيز النمو الاقتصادي في أوروبا وباقي أنحاء العالم. ويمكن أن يحفز انخفاض أسعار الوقود زيادة حركة السفر جوا.

* أستاذ زائر في كلية إدارة الأعمال بجامعة متروبوليتان ورئيس «ألترا كابيتال»