حمدين صباحي ودور «صانع الرئيس»

TT

ما هي الليبرالية؟ باختصار وتبسيط شديدين، فالليبرالية هي اقتصاد السوق. ومجتمع مدني. منفتح. متحرر. متسامح. ظاهرة الليبرالية العربية برزت بقوة مع الانتفاضات. وتمثلت أساسا بالقوى الشبابية التي نزلت من عالم الإنترنت الافتراضي، إلى الميادين والشوارع، مطالبة بالتغيير السلمي والسياسي.

لأن الليبرالية تيار وسطي بلا آيديولوجيا صلبة، فقد تعرضت للخطف. تقمصت القوى الدينية المتسيسة شعارات الليبرالية في الحرية والديمقراطية. وتمكنت من الاستيلاء على السلطة، أو المشاركة فيها، من المغرب إلى مصر.

كان الإخوان المسلمون، ومن هم على شاكلتهم، في المحافظة الدينية غير القادرة على التكيف مع الحداثة السياسية، أكثر القوى الدينية نجاحا في قرصنة الليبرالية. في مصر، نصب الإخوان أنفسهم حراسا للانتفاضة (يسمونها ثورة). ومن مخافر الحراسة المتقدمة (مجلس الشعب والشورى. المساجد. ميادين التحرير) انطلقوا مع السلفيين، في غزوة مظفرة على جبهتين: استولوا على السلطة التشريعية (75 في المائة من المقاعد). وحاولوا استيعاب القوى الليبرالية الشبابية والحزبية.

أدى فشل القوى الشبابية، في تحويل الانتفاضة إلى ثورة، إلى إحباط وانكسار واضحين. الإحباط قاد إلى سلبية سياسية عمياء. فقد توزع شباب الانتفاضة على حركات وأحزاب سياسية غامضة في ادعاءاتها الليبرالية، وفي مقدمتها «الإخوان».

أما الانكسار فقد أقام حلفا غير مكتوب بين الشباب و«الإخوان» للانقضاض على الفلول (بقايا النظام القديم)، ومناصبة المجلس العسكري العداء، متناسين دور العسكر (وليس المدنيين) في إجراء أول انتخابات حرة في تاريخ مصر.

عجز الانتفاضة، في التصرف كثورة، ارتد بالقوى الشبابية إلى الشارع والميادين، في شعبوية أقرب إلى الغوغائية. اشتد السعار الشبابي، بتحريض من الإخوان، بعد صدور الأحكام على رأس ورموز النظام القديم.

وهكذا، فقدت الليبرالية الشبابية والإخوانية بوصلة المسار السياسي المنطقي والعقلاني. شن الجانبان هجمة عارمة على القضاء الذي أصدر أحكاما «مخففة». ارتفعت الحناجر في الميادين مطالبة بإعدام مبارك، من دون أي اعتبار لمبدأ «الرحمة فوق العدالة». نصبت محكمة ميدانية لمحاكمة وإعدام دمية عجوز مريض. سجين. في الرابعة والثمانين من العمر، وفي تجاهل تام لماضيه العسكري المشرف الذي شوهته محاباته لأسرته. وإهماله فساد بعض رجال «البزنس».

لم يكن ضمير مصر مرتاحا لهذا التحريف الشعبوي الإخواني والشبابي لقيم الليبرالية، في الحرص على الأمن. الاستقرار. النمو الاقتصادي. تجسد غضب الأغلبية الليبرالية الصامتة، في وضع رمز كفء ونادر، من رموز النظام القديم (الفريق أحمد شفيق) في مقدمة منافسي الشيخ محمد مرسي الذي مكنته «ماكينة» الحشد الإخوانية من تصدر جولة الحسم الانتخابي (16 و17 يونيو «حزيران» الحالي).

أتناول الانتخابات الرئاسية من خلال مواصلة الحديث عن الليبرالية المصرية. أعتقد أن التصعيد الانتخابي للشيخ مرسي ليس المفاجأة الانتخابية. الظاهرة المفاجئة هي الليبرالية الناصرية التي سجلت بقيادة المرشح حمدين صباحي انتماء نحو خمسة ملايين ناخب مصري إلى حركتها. فوضعته كالمرشح الثالث والمستقل، من دون اعتماد على المال السياسي، أو «ماكينة» انتخابية محترفة.

نعم، حمدين صباحي ليس مرشحا في الجولة الثانية. لكنه مؤهل للعب دور «صانع الرئيس»، إذا ما عرف كيف يستخدم هذه الكتلة الانتخابية الهائلة، في التصويت للمرشح الأكثر ليبرالية. مع الأسف، فقد ارتكب صباحي سلسلة أخطاء، في مسيرته السياسية، منذ انفجار الانتفاضة المصرية.

استطاع صباحي بلورة حركة ناصرية جديدة غير مشوبة بالرمادية الماركسية، في حزب «التجمع» الذي ضم منذ تأسيسه ماركسيين. واشتراكيين. وناصريين، بقيادة الماركسي «المؤمن» خالد محيي الدين، أحد رفاق عبد الناصر في ثورة الخمسينات. بل تجاوز الأحزاب الناصرية الصغيرة التي ولدت كالفطر، بزعامات شابة. أو مخضرمة لم تستطع، بسبب تنافسها وعدم جديتها، تأسيس قاعدة شعبية، كتلك التي شكلها صباحي.

غير أن الليبرالية الناصرية الصباحية ظلت أسيرة البيئة المحلية المصرية. ولم تخرج إلى البيئة العربية الأوسع، على الرغم من أنها تبدو أكثر تحررا وانفتاحا، من ناصريي المؤتمر القومي العربي الذين تنتابهم حالة بكائية على صدام، ممزوجة برعاية لشعار «الممانعة» الزائف الذي رفعه بشار، بديلا لشعار «المقاومة».

آمل في أن أتناول قريبا دور الليبرالية الناصرية الجديدة، في حديث عن تمرد بيي «المؤتمر القومي العربي»، بمناسبة انعقاد لقائه الثالث والعشرين، في تونس أخيرا، من دون أن يسجلوا موقفا حاسما من الإسلام السياسي. وقضية الحرية والديمقراطية، في جمهوريات الانتفاضة.

الخطأ الذي يمكن أن يكون مميتا لليبرالية صباحي، هو حلف «الجنتلمان» مع «الإخوان»، على أساس العداء لـ«فلول» النظام القديم. من حسن حظ صباحي أنه اكتشف متأخرا حقيقة «ليبرالية» الإخوان المحافظة. وأدرك أن الشيكات السياسية التي أصدرتها في الموسم الانتخابي، هي بلا رصيد في الالتزام بتداول السلطة عبر صندوق الاقتراع.

الكارثة أن صباحي أصلح الخطأ بخطأ أكبر! أعلن أنه سيقوم بتأسيس «تكتل سياسي» كبير. ثم ناقض نفسه داعيا الملايين الذين صوتوا له، إلى التصويت حسب رؤاهم ومواقفهم الشخصية، معلنا حياده وعدم تصويته لمرسي أو شفيق!

كسياسي يعرف كيف يؤكد زعامته وشجاعته في اللحظة المناسبة، ربما كان على حمدين صباحي أن يخوض غمار الجولة الرئاسية الثانية، من خلال توجيه وقيادة خمسة ملايين ناخب، في التصويت للمرشح البديل، للمرشح الإخواني.

خسر «الإخوان» كثيرا من شعبيتهم ومصداقيتهم، عندما أصيبوا بالتخمة، نتيجة الشراهة في ابتلاع الوعود التي بذلوها. ابتلعوا الانتفاضة الليبرالية الشبابية. السلطة التشريعية. سفهوا أحكام القضاء على رموز النظام القديم. تورطوا في معركة مع القضاة، بإصرارهم على مواصلة النظر في مشروع قانون السلطة القضائية، في برلمان إخواني لا يتمتع بمشروعية كبيرة. ثم انتزعوا مع القوى الدينية الأخرى، ما يقرب من نصف مقاعد اللجنة التأسيسية المكلفة بوضع الدستور الجديد.

مصر بحاجة إلى رئيس قوي ومستقل. ضعف شخصية محمد مرسي، وطواعيته للمرشد. ومكتب الإرشاد. وللرأسمالية الإخوانية التي يمثلها راعيه خيرت الشاطر. ثم رفضه تقديم التزام خطي بالوعود الانتخابية التي بذلها لصباحي والآخرين، كل ذلك جعل من تلك الوعود شيكات سياسية بلا رصيد. وكانت الحملة الإخوانية. المركزة على شخص المرشح المستقل المنافس أحمد شفيق، من أسباب الاستخفاف بقوة وشخصية رئيس، كالشيخ مرسي، على الرغم من أن «الماكينة» الانتخابية الجبارة، ربما تكون قادرة على صنع «معجزة» فرضه رئيسا في الجولة الثانية.

ليس كل رجال النظام القديم فاسدين. حملة الإخوان على شفيق ظلمته. وأفادته. شفيق أظهر كفاءة في إدارة مؤسسة ضخمة كالطيران المدني. وتقدم بشجاعة كمرشح معبر عن موقف 54 في المائة من الناخبين الذين لم يصوتوا في جولة «غزوة الصناديق» الأولى.

خانت الشجاعة الدبلوماسية المخضرم عمرو موسى. هو الآخر لم يدع ناخبيه (2 مليون ناخب) إلى التصويت لرمز هو مثله، متهم بأنه من فلول النظام القديم. ورجع المرشح عبد المنعم أبو الفتوح عن «جاهليته»، داعيا ناخبيه (أربعة ملايين) إلى التصويت لمرشح «الهداية» الإخوانية. فهل خانت الشجاعة أيضا المرشح الناصري حمدين صباحي، ففضل السباحة في «فراغ» الحياد؟ أم هي أزمة انكسار الليبرالية وإحباطها التي تمنعه من لعب دور «صانع الرئيس» بعد أيام قليلة؟!