رهان طهران ورهائنها.. التفكير خارج الصندوق

TT

لإيران رهانات كثيرة في المنطقة العربية، تستخدمها طهران من أجل دفع مصالحها إلى وضع تفاوضي أفضل، خاصة مع القوى الغربية النافذة، أوروبا والولايات المتحدة. أول رهان على العراق الذي يكاد يتحول إلى رهينة إيرانية، فقد أصبح من المعروف - حسب تصريحات جهات كثيرة في العراق، منها المتحدثون باسم التيار الصدري، ولكن ليس وحدهم - أن أي تغيير سياسي في القيادة العراقية، يجب أن توافق عليه طهران، فهم يفاوضون طهران من أجل السماح لهم بطرح الثقة عن نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي، الذي بدوره له علاقات وثقى بطهران وقواها السياسية، ويحتمي بها وقت الحاجة! فطهران اليوم في بغداد هي بيضة القبان، أين تَمِل البيضة الإيرانية، تَمِل معها السياسة العراقية قاطبة، إلا بعض القوى الصغيرة.

وبجانب ما يعترف به علنا حزب الله اللبناني أنه مناصر وبلا هوادة للسياسة الإيرانية في الشرق الأوسط، بل وتابع لها، وهو رأس العمل الإيراني المنظم في لبنان وما جاورها من مناطق عربية، خاصة في الإعداد السياسي والعسكري للكوادر، كما التدريب الإعلامي. عدا أن إيران تحتفظ بعلاقات وثيقة مع حركة حماس من منظوري المساندة السياسية، والمساندة الاقتصادية. بجانب ما أصبح معروفا على نطاق واسع من يد خفية لإيران في بعض مناطق الخليج، تحرك مجاميعها متى شاءت وبأي اتجاه تريد، ولها مسارب في اليمن والصومال، كل ذلك بجانب تحالف مصلحي مع كل من روسيا والصين. وأخطر ما يمكن أن يحدث في التفكير الاستراتيجي العربي أن يستخف بقدرات إيران التحريكية.

ومن جهة أخرى، يتحدث كوفي أنان عن تكوين مجموعة اتصال دولية من خارج مجلس الأمن ومن داخله، تتولى النظر في مستقبل الوضع السياسي في سوريا، بعد كل تلك المجازر والقتل، ويقترح أن تكون إيران عضوا فيها، ورجل مثله (مع خبرته الطويلة في العمل الدبلوماسي والسياسي الدولي) لا يقترح هذا الاقتراح عفو الخاطر، وهو خير من يعرف تشابك العلاقات الدولية. ظهور الاقتراح على السطح يفترض جس نبض طهران مسبقا، وعلى أي طريق سوف تتقدم في المسار السوري من أجل تغيير النظام هناك، لأنه يعلم علم اليقين أن دخول إيران في لجنة كهذه مع الإبقاء على شروطها العلنية في استمرار النظام، يعطل أساسا خطته التي في باطنها التخلص من النظام كما هو قائم، كما يعلم أن اقتراحه «حافا جافا» دون اتفاق مسبق على خارطة طريق ينتهي في آخرها النظام السوري، لا يلقى موافقة من الأميركان أو الغرب وحتى العرب. فاقتراح دخول إيران إذن في اللجنة يعني أن هناك اتفاقا مسبقا على تغيير جلد النظام السوري، ولكن ليس دون جائزة ما لطهران.

إن أخذنا كل ذلك بعين الاعتبار فإن إيران لما لها من الأذرع في المنطقة العربية، تستطيع أن تصل عن طريق استخدامها، إلى اتفاق تاريخي مع القوى الغربية، خاصة إن لعبت الورقة السورية بنجاح، كما يرغب ويريد كوفي أنان نفسه.

من المحتمل أن تضحي إيران بالنظام السوري كما نعرفه، حيث استهلك كل احتياطيه السياسي، ولم يعد قادرا على النفع في المستقبل، وما يؤكد ذلك خطاب مندوبه العبثي بشار الجعفري في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث بدا مفككا وخارج السياق، وسيكون النظام السوري بعد اليوم محاصرا ومنبوذا وتقلع من أصابعه أظافر كانت تستفيد منها طهران! إنما شروط تغيير النظام السوري الحالي (من وجهة نظر إيران) يتطلب أمرين: الأول وصول إيران مع القوى الغربية إلى اتفاق يترك فيه لإيران مناطق نفوذ معتبرة مع تحرر من الضغوط الاقتصادية الهائلة عليها، والثاني ترك هوى إيراني ما في دمشق، يشابه الهوى الإيراني في بغداد إن لم يكن بالتطابق، فعلى الأقل دون انقلاب عدائي ضدها، لأن دمشق مهمة بذاتها وأيضا كممر للحليف الأكثر قربا، وهو حزب الله اللبناني، المستودع الاستراتيجي والبوتقة العربية لما تريد إيران تحقيقه في المنطقة.

أفضل سيناريو يمكن تخيله ينتج من مجموعة الاتصال كهذه هو التخلص من رأس النظام السوري مع المجموعة القليلة حوله، وترك النظام برأس علوي يحقق أمرين؛ الأول ولاء مستمر لإيران مع كل التسهيلات المطلوبة، وثانيا يبتعد عن تغيير لون النظام تغيرا جوهريا.

بالنسبة لكوفي أنان يعد ذلك نجاحا يفتقر إليه في سني تقاعده، وبالنسبة لدول الغرب، يعتبر حلا وسطا ولو صعبا، يكفيهم التكاليف الباهظة السياسية منها، والمالية في السير على طريق سيناريو ليبيا أو حتى مصر. فاللاعب الأكثر قدرة على تقديم شيء ملموس اليوم في الموضوع السوري هو إيران بالمساندة مع حليفيها الروسي والصيني، وكل الحلفاء الثلاثة تخيفهم حركة شارع غير منضبط حين يقرر اقتلاع حكومات قائمة على الاضطهاد والقمع.

الروس هاجسهم ما حدث ويحدث من احتجاجات على لعبة الكراسي بين فلاديمير بوتين، الرجل القوي منذ 12 عاما في روسيا، ورفيقه، ديمتري ميدفيديف، وقد بدا الأول يشدد التضييق على حق التظاهر في بلده، ليقلل من مخاطر الغليان الشعبي على غرار ربيع العرب، والصينيون لا يزالون يتذكرون ما حدث في ساحة تيانانمن بين 15 أبريل (نيسان) و4 يونيو (حزيران) 1989، التي قادها طلاب ومفكرون وانتهت بمذبحة، كما أنهم عطشى للنفط الإيراني الرخيص نسبيا، الذي يسد شرههم للنمو الاقتصادي المرموق، أما الإيرانيون فإن التلويح باللون الأخضر واسمي موسوي وكروبي اللذين قادا الثورة الخضراء في شوارع ومدن إيران عام 2009 وقوبل تحركهما مع الجماهير بقبضة حديدية، يصيبهم بحكة جلدية مفاجئة أشبه بالأكزيما. الأطراف الثلاثة من مصلحتهم إضعاف الطلب على بضاعة الحريات التي تتفشى في المنطقة، عن طريق إفشال تذمر واسع كالتذمر السوري، من مصلحتهم احتواؤه أو حرف مقاصده، بعد ذلك التبشير بأن ليس كل ربيع يمكن أن يأتي بالهواء الطلق والخضرة اليانعة، وهو كلام يمكن أن يقال للجبهات الداخلية في الأنظمة الثلاثة!

آخر الكلام:

أبشع تعبير استعمل في الإعلام مؤخرا هو الذي أشار إليه التقرير الأول للجنة المراقبين الدوليين في سوريا حول مذبحة القبير، قال: «لقد شممنا رائحة اللحم الإنساني المحترق! وشاهدنا أشلاء بشر متناثرة، وكان هناك آثار معدات حربية ثقيلة، لا يمكن أن تستخدم إلا من الجيش»!