لكي لا يورث سجنا

TT

عام 1952 كتب غسان تويني افتتاحية «النهار» بعنوان مأخوذ من يافطة رفعها العمال المتظاهرون: «بدنا ناكل جوعانين». فحكم بالسجن شهرا، فكتب من سجنه افتتاحية عنوانها: «ما بدنا ناكل. مش جوعانين». وقدم لها بأبيات للشاعر أحمد الصافي النجفي:

سجنت وقبلي في العلا سجنوا أبي

وآمل في العلياء أن يسجنوا الابنا

إذا لم نورث تاج مجد وسؤدد

لأبنائنا طرا نورثهم سجنا

ورث غسان تويني عن والده جبران شغف الحرية وقدم ابنه جبران أضحية لها. وطوال ستة عقود، خاض في لبنان وفي الألم العربي معركة القيم الإنسانية العليا، لكي لا ترث الأجيال السجن العربي الذي حذر منه الصافي النجفي، الذي هجر العراق وجاء بيروت فقيرا من أجل الهواء الطلق، وسوف يأتيها بعده بدر شاكر السياب، دمعة الفرات.

لا يزال العالم منهمكا في توديع غسان تويني «عملاق الصحافة العربية»، كما نعته الـ«بي بي سي». لكن بعد حين سوف يأتي دور غسان تويني السياسي والوطني وصاحب الرؤية العربية. وسوف نرى أن الرجل الذي كان بلا حزب وبلا مواكب استعراضية وبلا حقائب مالية، أدى أحد أنبل الأدوار الوطنية في لبنان المستقل.

هو الذي خاض المعارك ضد الفساد، وهو الذي خاض المعارك ضد الاستبداد، وهو الذي لم يتملق ولم يهادن ولم يقارب الديكتاتوريات العربية، ولا ترك لها المجال أن تتملقه. لم يقترب منها ولم يدع لها أن تقترب منه.

حارب وقاد حرب الوصايات على لبنان بشجاعة لن نعرف مداها إلا بعد حين. حارب وصاية السفير المصري عبد الحميد غالب. وحارب بعدها وصاية الرشاشات الفلسطينية التي تتمشى في شارع الحمراء أمام مبنى «النهار». وحارب وصاية اللواء غازي كنعان الذي زحف اللبنانيون إلى مكتبه في بلدة عنجر بين شجر التين وجلول التفاح، للمزيد من تحقير الضيوف وأذلاء الأبواب.

لم يكن غسان تويني «السلطة الرابعة» كما تسمى الصحافة، بل كان الرقيب على ممارسات السلطة وتسلط المتسلطين. خاض حربا بلا هوادة من أجل أن لا يهوي لبنان تحت سلطة العسكر مثل سواه. وخاض حربا مماثلة ضد الميليشيات والانكشارية. وخاض حربا كبرى ضد حروب تفتيت لبنان وشهوات أفاكيه.

عندما جاء الجنرال إميل لحود إلى الرئاسة حاولت كثيرا أن أقنعه به. كان يقول في حدة: «أنت لا تعلمني عن العسكر، أنا من يعلمك عنهم. دعنا من رومانسياتك وبساطة قلبك». لم نتعلم منه الصحافة وحدها، بل علمنا أيضا أن العمل من أجل لبنان يقتضي الحذر من السياسيين اللبنانيين. كان يعرفهم عن كثب ولذا عاش بعيدا إلا عن الأنقياء منهم.