متعة التبلد!

TT

من النعم الكبرى التي يحلم بها الإنسان في هذه الأيام الرغبة في الشعور «بالتبلد» الدائم! هذا الحلم الجميل يعني أن يكون جلدك سميكا مثل جلد الفيل «التنزاني» لا تؤثر فيك المصائب، ولا يتسلل إليك الشعور بالاكتئاب، ولا تصاب بأي ردود فعل تجاه ما تقرأه في الصحف أو تشاهده في نشرات الأخبار. الشعور باللاشيء في زمن الهستيريا والجنون والصوت العالي والتطاحن في برامج التوك شو والسباب على الإنترنت والثأر والثأر المضاد على مواقع «تويتر» و«فيس بوك»، هو الإنقاذ وطوق النجاة الذي يساعدك على الخروج من دورات الاكتئاب.

عاش الإنسان العربي من حرب 1948 إلى هزيمة 1967 وضياع القدس في نكسات. وعاصر الإنسان العربي ظهور حكومات الانقلابات العسكرية وسطوة الاستبداد وسيطرة شبكات الفساد على مصائرنا. وشاهد الإنسان العربي على شاشات التلفزيون غزو الكويت، وسقوط بغداد، وغزو جنوب لبنان، ومحاصرة بيروت، وحرب الأشقاء في اليمن، واغتيال السادات في مصر، ومجازر نظام الأسد في سوريا.وعاصر الإنسان العربي مجازر جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، وعمليات قمع الانتفاضة الأولى والثانية، وبناء المستوطنات على الأراضي المحتلة، وشق الأراضي الفلسطينية بالسور الإسمنتي المخيف! كل ذلك يحدث تحت سمع وبصر الإنسان العربي الذي أدمن المهدئات، أو قرر الهجرة أو الانفصال العقلي والنفسي عن مآسي المرحلة. لذلك كله أقر أمامكم بأن حلمي الأكبر هذه الأيام أن أصاب بداء «التبلد»، بحيث لا يهزني خبر منشور في جريدة، ولا تدمع عيناي عند مشاهدة نشرة الأخبار، ولا يرتفع معدل السكر في الدم عندي حينما أتابع خطابات الرئيس بشار الأسد، ولا أنفعل حينما أرى القوى السياسية في مصر وهي تجهز على نفسها وعلى البلد!

«المتبلدون» سعداء لأن الله منحهم «سترة مضادة للمشاعر» لا ينفذ منها غضب أو حزن أو حسرة على أوضاع الأمة العربية. حينما تكون متبلدا لا يزعجك أي خبر ولا يؤرق نومك أي مشهد من مجزرة في سوريا أو فلسطين المحتلة، ولا يحترق دمك بسبب ظاهرة الإخوة الأعداء في لبنان أو مصر أو فلسطين. حينما تكون متبلدا لا تغضب للهزائم المتكررة للفريق القومي لكرة القدم، ولا تصاب بأي حزن جراء سوء الأداء السياسي المتكرر للجامعة العربية تجاه قضايا الأمة وأزماتها الملحة.

التبلد يجعلك لا تستهوي حالة الفوارق المذهلة بين الفقراء والأغنياء، ولا يؤثر فيك أن أكثر من ثلث العرب يعيشون تحت معدل خط الفقر، ولن يغضبك أن منطقة الشرق الأوسط أكثر من ينفق على التسلح على الرغم من عدم وجود حروب!

المتبلدون هؤلاء السعداء لأنهم أعطوا عقولهم عطلة رسمية، ووضعوا ضمائرهم في مخزن تبريد وتجميد، وكتبوا على ألسنتهم عبارة «ممنوع الغضب أو الاعتراض». وكما يقول أهل مصر «يا بختكم يا ولاد الإيه»!