آلام الانعتاق المصري؟!

TT

ليس سهلا أبدا أن يتغير مجتمع ودولة بعد ستة آلاف عام على نظام فرعوني عرف أشكالا كثيرة ومتغيرة من حكم أهل البلاد والأجانب، ولكن جوهرها كان دائما أمرا واحدا: الاستبداد. كان الظن أنه تكفي ثورة واحدة مثل تلك التي جرت في عام 1919 أو 1952 لكي تتغير مصر وتضع نفسها على الخريطة الديمقراطية في العالم، ولكن ذلك لم يكن مقدرا؛ ربما لأن المجتمع لم يكن مستعدا في النصف الأول من القرن العشرين، أو أن هدف «إقامة حياة ديمقراطية سليمة» لم يكن ممكنا في النصف الثاني من ذات القرن بعد نسيان ثوار يوليو (تموز) الموضوع تماما. هذه المرة لا يبدو أن أحدا يتعجل حتى عندما قامت الثورة وانهار نظام بأكمله بأسرع مما انهارت نظم مماثلة في المنطقة، ويبدو أن آلام الانعتاق من النظام الاستبدادي ليست بتلك التي تذهب بعيدا وبسرعة كبيرة.

بقيت أيام قليلة وتجرى الانتخابات الرئاسية المصرية بين ممثل الإخوان المسلمين الدكتور محمد مرسي والمرشح المستقل الفريق أحمد شفيق. ولو أن أحدا من العرافين السياسيين أو من أصحاب الخطوة من أولياء الله الصالحين طرح منذ عام أن المواجهة الأخيرة في السباق الرئاسي سوف تكون بين آخر رئيس وزراء في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، والمرشح «الاحتياطي» لجماعة الإخوان، لتصور أن هؤلاء المصريين لم تعد لديهم قدرة كبيرة على الإضافة. الأمر في كل الأحوال شكل صدمة كبيرة خرج الشباب على أثرها يطالبون بتغيير قواعد اللعبة بتطبيق قانون «العزل السياسي» الذي فصّله البرلمان، صاحب الأكثرية الإخوانية والأغلبية الإسلامية، تفصيلا على حجم اللواء عمر سليمان، نائب رئيس الجمهورية السابق، ولكن مع استبعاده من قبل لجنة الانتخابات العليا، إذا به صار مطروحا أن يطبق على الفريق أحمد شفيق. فتنازعت البلاد نزاعا كبيرا بمظاهرات سارت رغم ارتفاع الحرارة، واستمرت آلام القاهرة أسبوعا كاملا، ثم خرجت من «مليونية» إلى أخرى، وكأنه يستحيل وجود انتخابات ديمقراطية دون آلام شعبية واسعة.

المرجح أن الشعب المصري كانت له مبرراته في الاختيار، وربما أراد التخلص من آلام الاختيار مرة واحدة، وعلى عكس ما ذاع فإنه كان يستطيع التمييز داخل النظام القديم بمعرفة الصالح من الطالح، وأصحاب المواهب البناءة من أولئك الذين زعزعوا جذور النظام حتى انهار على رأس أصحابه. وإذا كان ذلك هو رأي الشعب الذي انحاز إلى الفريق، فإن الثوار كانوا بالتأكيد يريدون واحدا من بينهم أكثر شبابا وعنفوانا بمقاس خالد علي، وإذا لم يكن ذلك ممكنا فربما كانت هناك منفعة في حمدين صباحي أو عبد المنعم أبو الفتوح، ولكن الأمر استقر في النهاية على محمد مرسي الذي بقي من الثوار، فكان هول تسليم البلاد إلى جماعة لا يطمئن أحد إلى نياتها، فاستقر الألم من المستقبل مع كل آلام الحاضر.

المسألة كلها باتت كآلام الوضع والخروج من رحم الأم إلى الدنيا الواسعة أو الانعتاق من قيود العبودية والتخلف إلى الحرية والتقدم. والمعضلة أنه لم يكن هناك قابلة تقوم بمهمة الميلاد، ولا كان هناك أحد على استعداد لتولي القيام بعملية قيصرية. ولا كان هناك قائد أو زعيم على استعداد أن يأخذ بيد أمة إلى حيث يجب لها أن تكون؛ فالقادة إما أنهم ضاعوا في ميدان التحرير، وإما أنهم دخلوا انتخابات لم يعد أحد مندهش من النتائج على استعداد لتحمل نتائجها. في مثل هذه الحالة فإن «القضاء» يصير مرشحا لكي يقوم بدور القابلة، أو السلطة التي تأخذ البلاد بعيدا عن الدهشة، ولكنه - للأسف - أضاف آلاما أخرى إلى عملية الخروج من نفق مظلم. وكأنه لم يعد كافيا أن كل أنواع المحاكم؛ دستورية وإدارية وعادية واستثنائية، في مصر أصدرت أحكاما متضاربة ومتعارضة؛ فإن بعضا منها بدأ يدخل في صدام مع مجلس الشعب الذي هو أصلا في حالة صدام مع المجلس العسكري والذي هو مصمم على أن يعقد الانتخابات الرئاسية ثم يمضي إلى حاله ويترك البلاد كلها في يد المدنيين.

وربما كان هذا السيناريو ممكنا لو أن الآلام اقتصرت على كل ما سبق، ولكن أحدا لا يستطيع أن يتجاهل أن في جعبة المحكمة الدستورية العليا قرارين هامين: الأول يخص قانون العزل السياسي، ومن ثم ما إذا كان سيظل الفريق أحمد شفيق في السباق الرئاسي أم لا، فإذا استمر خف الألم وجرت الانتخابات، أما إذا لم يستمر فإن الأمر يعود مرة أخرى إلى اللجنة العليا للانتخابات التي سوف تقرر الطريقة التي تزيد بها الأمور تعقيدا. والثاني أن أمامها قرارا يخص حل مجلس الشعب ودستورية وشرعية وجوده، فإذا ما جاء القرار بالحل صارت الساحة مكانا للصراخ بأكثر مما تقدر الحناجر؛ أما إذا كان القرار هو الاستمرار فربما كان في الأمر أمل، خاصة وقد نشط البرلمان أخيرا وبدأ في الإعداد للجنة التأسيسية لوضع الدستور.

تعالوا نضع الصور بعضها فوق بعض من أول المظاهرات المنادية بسقوط نظام العسكر، الذي سوف يذهب على أي حال بعد أيام قليلة، ونودي معها بتطبيق قانون العزل الذي صار بين يدي المحكمة الدستورية العليا. وكل ذلك يحدث بينما الحملة الانتخابية مستمرة، والدعاية جارية على أشدها وكأن لا شيء يوقف مسيرة الديمقراطية في مصر. الصورة لا شك معقدة ومركبة ومؤلمة في آن واحد، وبخاصة أن المشهد فيها متشابك مع مشهد تراجيدي يبدو جانبيا ولكنه يفرض نفسه أحيانا على قلب الصورة؛ وهو حالة الرئيس السابق حسني مبارك الذي استبدت به آلام السجن فتردت حالته الصحية وبات الشعب المصري لا يعرف كيف يشعر أمام آخر الفراعنة! ولكنه لن يستطيع أن يتخلص من التساؤل عما إذا كان الرجل في سجنه سوف يكون فعلا آخر الفراعنة أم أن صعوبات الميلاد سوف تخلق فرعونا آخر.

التخوف مشروع، وتقاليد آلاف السنوات لا يمكن التخلص منها بسهولة، والندرة كبيرة بين العقلاء وأهل الرشد. الأمل الوحيد هو أن مصر قد وصلت إلى هذه النقطة من قبل حينما جرت الانتخابات التشريعية وسط مظاهرات «محمد محمود» و«مجلس الوزراء» و«ماسبيرو» وكلها كانت فيها الآلام عظيمة، ومع ذلك تم انتخاب البرلمان وجرت المسيرة في مجراها المرسوم. هذه المرة ربما لن يختلف الأمر، وربما كانت هذه طبيعة السياسة على الطريقة المصرية والعربية، أو أن الديمقراطية تكون دائما صعبة في أولها، وبعدها يستقيم الوضع ويستقر الميزان. ولا بد أن أحدا تعلم شيئا ما، ويكفي ما عرفنا من آلام حتى يتم تشكيل الجمعية التأسيسية، ولكن يبدو أن الطريق لها بات معبّدا، فلماذا يكون الشك إزاء الانتخابات الرئاسية؟ ادعوا معنا أن تأتي السلامة للأم والمولود!