بين حذاءين.. تحولات الشيخ والمريد في الحالة الدينية المعاصرة!

TT

ربما كان مجرد خبر لافت ومثير صحافيا أن تتم سرقة حذاء وزير الشؤون الدينية في الحكومة التونسية المؤقتة نور الدين خادمي لجامع «الغزالة» بضواحي تونس العاصمة، وأن تكال له عبارات السب والشتم إلى أن يطرد من المسجد من قبل تيارات منسوبة للسلفية التونسية وهي بالمناسبة سلفية من نوع خاص تقترب من موجة التكفير والعزلة التي مسّت أوائل المجموعات العائدة من أفغانستان في التسعينيات وبعض الجماعات الجهادية في مصر، وهي حالة معروفة يمكن أن نفهم أسبابها إذا فهمنا غياب المرجعية الدينية في الحالة السلفية ومدى تأثر الخطاب وتحوله نحو العنف كما هو الحال في المناخين السابقين، وأيضا تحوّل خطاب السلفية الجهادية في الأردن عقب رحيل الشيخ الألباني.

الغريب أن الأمر مع الوزير الديني في تونس لم يقتصر على العنف اللفظي على بشاعته وتعبيره عن احتقان الحالة الدينية في تونس بل تعدى ذلك إلى قيام هذه المجموعة بتعمد قطع الكهرباء لإنهاء محاضرته الأمر الذي قابله الوزير بتصريحات حاولت تخفيف وطأة الحدث، بغية عدم استغلال الإعلام للحادثة وفتح ملف شائك كملف الجماعات المتشددة في تونس حيث ترغب أطراف تونسية كحزب النهضة وبعض الثوار في عدم تلطيخ لوحة «الثورة» الوردية بمثل هذه النتوءات المتفهمة جدا في حالات الفوضى والمراحل الانتقالية.

انفصال الشيخ والمريد هل هو وليد اللحظة؟ هل هي خصوصية سنية أم سلفية؟ وهل ثمة تحولات عميقة طالت بنية العلاقة بين المؤسسات الدينية الرسمية وكوادر الحركات الإسلامية أو المنتمين لتياراتها من غير «العامّة»؟ أسئلة مهمة جدا وبحاجة إلى الكثير من الدرس والفحص ليس فقط بسبب مرحلة «الثورات» فحسب؛ بل لأنها حالة ممتدة الجذور منذ بدايات انفصال الحالة الدينية العامة للإسلام السني بفعل بروز تيارات الصحوة الدينية ولاحقا «الإسلام السياسي» وتراجع دور المؤسسات الدينية بشكل عام، كما هو الحال في تراجع المرجعيات الدينية الكبرى لصالح الدعاة والمحتسبين ونجوم الفضائيات وصولا إلى «المفكرين»، وهم في الغالب سياسيون بلكنة دينية باتوا يشكلون مرجعيات مستقلة لا تخطئ العين حجمها أو انتشارها في صفوف «غير العامة» أيضا.

الشيخ والمريد تعبير رمزي في النسق الصوفي يدل على قوة العلاقة والاتباع غير المعقلن لكنه استعير كتعبير سياسي من قبل الدكتور عبد الله حمودي في كتابه الفريد: «الشيخ والمريد: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة» يرصد فيه العلاقات الشمولية في الأنساق الاجتماعية والسياسية القرية/القبيلة/الحكم المركزي/الأممية، وانتقال تلك العلاقة بين الشيخ والمريد من المجال الديني في التصوف إلى السياسي كما أنه حفريات بحثه هي في الحالة المغاربية تحديدا.

أنا أستعير رمزية العلاقة بين شيخ ومريد في التحولات الجديدة التي عاشتها الصحوة الإسلامية في انفكاكها عن المرجعيات الدينية المحلية لصالح رموز الإسلام السياسي وهم خليط من الدعاة الذين تم تكريسهم كحالة منفكة عن العلماء أو كبار العلماء وتمييزهم بفقه للواقع أكثر بغية منحهم الفرصة للقول السياسي، كما يشمل الدعاة مفكرين قادمين من تخصصات غير شرعية اعتنوا بالسياسة من زاوية إسلاموية بدأت بالعودة إلى الجذور وإحياء الخلافة والحاكمية وصولا بعد عقود من التحولات إلى أسلمة الديمقراطية والمبادئ العامة لحقوق الإنسان وبين دعاة ومفكرين ونسيج عريض من «التربويين» أو «المربين» وهم الشريحة الأكبر الغائبة عن الإعلام لكنها الحاضرة على الأرض تعد صلة الوصل بين الأتباع والدعاة ويختلف حضور هذه الفئة بحسب قوة المؤسسة الدينية في البلد وآليات التحالف معها أو مصادمتها.

حالات تراجع المؤسسة الدينية لم تكن كما يحاول «الإسلام السياسي» ومؤرخوه تصويرها بأنها تمت بفعل تهميش الأنظمة السياسية بهدف تحييد الدين، بل كانت نتاج عملية طويلة ومعقدة من التحولات التي طالت تلك المؤسسات وساهمت في تهريمها قسرا ضمن حالة الانفصال بين التراتيب الدينية العريقة للمدارس الفقهية واحترامها والانتساب إليها والكدح المضني للوصول إلى مرتبة الفقيه أو العالم الشرعي، واستسهال ذلك كله بدعوى «محاربة التقليد» والاجتهاد المتاح لكل شخص، وصولا إلى ظهور طبقة جديدة من العلماء الشرعيين مقطوعي الصلة سندا ومتنا عن المدارس الشرعية التقليدية، الانقطاع في السند بعدم التتلمذ المباشر وفق تلك التقاليد العريقة من الإجازات وإذن التدريس.. الخ والانقطاع في المتن بالخروج عن الخطاب الديني إلى خطابات سياسية واقتصادية وحتى ثقافية كان العلماء بمنأى عنها في التفاصيل وإن كان لهم رؤيتهم الإجمالية، ومن هنا بات من السائغ جدا للمتدين/الملتزم الجديد أن يراجع العلماء المؤسسين في الفتاوى الفقهية لكنه يستمد رؤيته الخاصة فيما عدا ذلك من الطبقة الجديدة من روزنامة الدعاة والتربويين والمفكرين والقادة وأهل الثغور... الخ.

ما قبل الثورات يمكن رصد حالات الانفصال في الهجوم العريض من قبل الإسلام السياسي على مؤسسات الأزهر ومراكز الإفتاء والمجامع الفقهية وهيئات كبار العلماء، والذي تفاوت بحسب كل حالة الأمر الذي تفاقم بعد غياب مثلث مرجعيات السلفية المعاصرة ابن باز وابن عثيمين والألباني بل وغياب أغلب تلاميذهم الكبار أو تغييبهم بفعل تفاقم حالة الانفصال وظهور «فقهاء الأنابيب» كما كان أحد الشيوخ الذين درست عليهم يلقبهم في إشارة إلى أخذهم العلم عن الكتب فحسب.

ما بعد الثورات من الصعب الآن رصد الآثار التي عادة ما تأخذ فترات أطول شأن التحولات الاجتماعية والاقتصادية لا سيما وأن مخاض «الثورات» لم ينته بعد كما أن آثارها على طبيعة الخطاب الديني والعلاقات بين مكوناته ما زالت في مختبر الأحداث، على سبيل المثال هناك احتقان شديد قد ينتج عن الموقف من المؤسسات الدينية كما أتوقع في الحالة السورية واليمنية إلى حد ما، وإن كانت طبيعة ما ستؤول إليه الأمور فيما يخص الحالة المصرية والتونسية ستحدد نتائج تلك العلاقات بين الشيوخ والمريدين.

الموقف من أحداث ما بعد الثورات سيلقي بظلاله على تلك العلاقة بالغة الحساسية، وما الفتاوى العريضة التي اتخذها بعض العلماء من بلدان عديدة تجاه الانتخابات المصرية ودعم مرشح ما على حساب آخر إلا مؤشر على طبيعة تلك التجاذبات وتأثرها بالخطاب الديني ومرجعياته في حين أن المسألة حتى في التكييف الفقهي لا تعدو أن تكون نازلة عصرية لا يمكن القول فيها بشكل مرسل وعلى طريقة «التوصيل المجاني» للوجبات السريعة.

هل من تقصير أو قصور فيما يخص المؤسسات الدينية الكبرى وحتى العلماء الشرعيين التقليديين، الجواب بلا شك نعم لكن حالة الانفصال التي تعيشها الحالة الدينية اليوم وهي بالمناسبة حالة خطرة وينبغي أن تكون كذلك حتى للمؤمنين بالدولة المدنية أو الذين يرزحون تحت أنظمة علمانية، هي حالة مسبباتها ترجع إلى طبيعة الصراع على التمثيل الديني والشرعية بين مختلف اللاعبين في الحقل الإسلامي.

حين قرأت قصّة حذاء وزير الشؤون الدينية التونسي، رجعت بذاكرتي إلى أول درس حضرته للشيخ عبد العزيز بن باز عام 1408هـ في دروسه الصيفية بالطائف وكيف أنه بعد نهاية الدرس تصارع طلابه عند باب المسجد لأخذ حذائه وتقديمه له كان ذلك الشغف البادي من توقيرهم للشيخ والسير معه مسافات طويلة لسؤاله عن أدق التفاصيل بل وتقبلهم لردعه لحماستهم المتقدة في القضايا العامة مما جعلني أهمس كم هي التحولات التي شكلها الفارق بين رمزية حادثتي الحذاءين.