الجينات.. لغة الحياة

TT

كتب الأستاذ القدير سمير عطا الله في 30 مايو (أيار) الفائت مقالا تحت عنوان «كيميائيات»، تناول فرضية علمية طرحتها في محاضرة سابقة عن أن الجينات هي مرجع لتفسير الإنسان؛ بيولوجيا وسلوكيا.

هذه الفرضية تحمل فكرة مثيرة للغاية يمكن تبسيطها دون الركون للمصطلحات العلمية المعقدة من خلال تساؤل؛ كيف للإنسان أن يولد مع أخيه التوأم، وينشآن تحت سقف البيت الواحد، تحت ظروف معيشية وبيئية واحدة، ولكن يظهر اختلاف جذري بين كلا الشخصيتين منذ نعومة أظفارهما؟ من أين انكشف هذا الاختلاف وكل العوامل ثابتة في اتجاه واحد؟!

هذه الحالة وأمثالها تتكرر في كل بيت، وللقارئ الكريم أن يقيم نفسه وأفراد أسرته؛ إخوته وأخواته، ليجد أن الفروق الشخصية والشكلية بينهم لا يمكن حصرها، وربما لو توجه بالسؤال لوالديه لأفاداه بأن هذا الاختلاف ظهر منذ الأيام الأولى لولادته، في طريقة الرضاعة، والبكاء، والحساسية للأمراض، بل حتى مستوى البهجة والمزاج والتفاعل مع الأغراب.

من هم مثلي من الدارسين لعلم الوراثة يقفزون للتأكيد على أن السبب هو الجينات، المادة الوراثية التي تحملها خلية الإنسان وتعطي لكل منا هويته الخاصة التي لا تشابه أيا من خلق الله، لا البشر الآخرين، ولا الحيتان، ولا الرياحين.

الناس تختلف لأنها تحمل جينات مختلفة، هذه الجينات هي البصمة والهوية والكينونة، وما يسميه علماء الأحياء «التعبير الجيني» هو بالنتيجة عبارة عن الإنسان الذي يقف أمام المرآة شكلا، وتفاعله مع الناس في المجتمع سلوكيا وشخصيا.

في الأشهر الأولى لدراسة علم الوراثة يقدمون لنا تجارب العلماء الأوائل في فهم التنوع الأحيائي، التي مهدت لكشف سر تكوين الإنسان، فكانت البداية مع تجارب العالم النمساوي غريغور مندل في عام 1860، الذي بدأ مع نبات البازلاء ذات الأزهار الحمراء، حيث زاوجها مع بازلاء ذات أزهار بيضاء، لينتج جيلا جديدا ربعه أحمر الأزهار، وربعه أبيض، ونصفه وردي، أي هجين.

أبحر «مندل» لفهم النسبة الرياضية التي ظهرت، وفسر سبب اللون الهجين، فعرفت قوانينه التي توصل إليها بـ«الواراثة المندلية» نسبة للعبقري الذي بحث فيها.

شيء مذهل كيف يؤثر التأمل العميق ويسمو بالنفس البشرية، وكيف يولد طاقة ذهنية وفضولا هائلا لسبر أغوار الحياة.

استمر العلماء في بحثهم داخل هذا العالم المثير والشائق حتى قام الثنائي؛ الأميركي جيمس واطسون، والإنجليزي فرانسيس كريك، باكتشاف تركيب المادة الوراثية الـ«دي إن أي» في عام 1953، وأظهرا أن «مادة الحياة» هذه عبارة عن خيطين حلزونيين يلتف بعضهما حول بعض في شكل هندسي عجيب، وسمي هذا الاكتشاف «نموذج واطسون وكريك»، اللذين حازا جائزة نوبل في الطب لهذا السبق التاريخي الذي يعد بلا منازع اكتشاف القرن، حيث فتح طريقا واسعا عرضا وطولا لفهم وتفسير العديد من الظواهر الأحيائية، خاصة ما يتعلق بالجينات المسؤولة عن بعض الأمراض التي كانت قبل هذا الاكتشاف مستعصية على العلاج، فاتسعت بذلك مجالات علاجها.

حينما كنت طالبة في الماجستير والدكتوراه درست تفاصيل هذا الاكتشاف حتى ظننت للحظة أني أصبحت إحدى حلقات شريط المادة الوراثية المعقد، كل طلاب هذا التخصص تشربوا قيمة هذا الاكتشاف المذهل، وشعروا بشكل أو بآخر أنهم يعيشون تلك الحقبة الزمنية التي ملأت الدنيا سحرا وتحديا وإثارة.

في بداية بحثي لرسالة الدكتوراه قرأت خبر وفاة أحد الثنائي؛ الإنجليزي فرانسيس كريك في عام 2004، وحزنت لذلك حزنا شديدا، وكأن أحد مصادر العلم النافع قد نضبت. وفي عام 2010 كاد قلبي يطير من شدة الفرح، حينما علمت أن زميله الأميركي جيمس واطسون سيحل ضيفا على جامعة الملك سعود في أول زيارة له لمنطقة الشرق الأوسط. أستطيع أن أصور سعادتي وقتها بأني كنت مثل مراهق مهووس بكرة القدم العالمية وقف ليأخذ صورة مع اللاعب كريستيانو رونالدو، الموقف فعلا مشابه. قلت وقتها لمدير الجامعة الدكتور عبد الله العثمان، وكان ذلك من شدة فرحي: «من ستستضيف الجامعة في المرة المقبلة؟ كوكب المريخ؟».

عندما وصل لجامعة الملك سعود، التقى العالم جيمس واطسون طلابها في محاضرات عن اكتشافه وأبحاثه في الأحياء والفيزياء والطب، ونصحهم بأن يحيوا عظماء ينشدون التميز لا على هامش الحياة، وأن يفكروا لخمسة أعوام مقبلة وليس لخمسة أيام.

الخلاصة، كلنا على هذه البسيطة مزيج من جينات والدينا وأسلافنا، اجتمعت لأمر قد قدر في إنسان جديد، يعبر عن نفسه شكلا ومضمونا من خلالها. قد نولد شغوفين بدراسة العلوم، مثل جيمس واطسون، لأن جيناته الحمراء تميل إلى ذلك، أو نولد مثل سمير عطا الله، نعشق الإنسانيات، لأن جيناته البيضاء ترى ذلك، أو نولد هجينا، مثلي، لأن جيناتي لونها وردي..

فتبارك الله أحسن الخالقين.

[email protected]