يبدو أنهم لم يفهموا الموضوع بعد

TT

لقد بدأت جسور الثقة والتعاون بين الكرد وشيعة العراق تبنى وتتركز دعائمها منذ الفتوى التاريخية لآية الله العظمى السيد محسن الحكيم في بداية ستينات القرن الماضي لصالح الثورة الكردية، استجابة لرسالة شفهية من القائد الكردي الراحل مصطفى بارزاني رفعها إليه ثلاثة من رجال الدين الأكراد، وكانت تلك الفتوى في حينها مظلة إنقاذ للشعب الكردي من حملة إبادة استنفر لها النظام العراقي المدفوع بعقلية بعثية عنصرية شوفينية عام 1963 كل ما يملك من أحدث الأسلحة التدميرية، كما كانت إجهاضا للحملة الدعائية التي كان النظام وأدواته يشنونها ضد الثورة الكردية لتضليل العراقيين بأكاذيب ومفتريات حول اتهام الكرد بالانحراف عن الدين وبالإلحاد، وكادت تشوه نظرة العرب الشيعة إليهم لولا هذه الفتوى التي حرمت قتالهم، فأسست مرحلة فاصلة في علاقات الثقة والرباط الروحي بين الكرد والشيعة.

فما الذي جعل السيد المالكي وحزبه يتجه بقوة، وعلى عجل، إلى هدم هذا الصرح الذي كان ضمانا لأمن العراق وتقدمه؟

إن واقع ما يجري في التفرد بالحكم في بغداد وتهميش الآخرين بلغ حدا من التنافر مع الدستور، والتنكر لاتفاقات سابقة ولاحقة مع الكرد وجميع العراقيين، يكاد لا يصدق لغرابته، فما كان يدور بخلد أحد أن ثقافة القائد البطل الأوحد، تنمو من جديد، بحجة هيمنة الدولة المركزية المجسدة في شخص القائد العام، مع أن الدستور ما كان حريصا على ترسيخ أي مبدأ دستوري بمثل ما كان حريصا على إشاعة ثقافة الشعب القائد لا المستبد القائد، أي ثقافة التنوع والفيدرالية، ومع أن العراقيين ما ذاقوا كل هذه المرارات طوال كل هذه السنوات العجاف إلا بسبب المركزية التي أنتجت القائد البطل والضرورة، فكان لا بد، وقد طلعت شمس الحرية وتحطم صنم التفرد والاستبداد، من تعويض الشعب العراقي عن سنوات السحق والتهميش والإهمال. فجاء الدستور معبرا عن هذه الإرادة، مقررا لمبادئ حكيمة تحول، في حال الالتزام بها، دون عودة الديكتاتورية والفاشية، وليست هذه المبادئ ألغاما في الدستور، كما يصفها أنصار الشمولية والمركزية للحكم، بل هي قواعد لحكم رشيد يحتاجه العراقيون لاستعادة كفاءاتهم وطاقاتهم، ولاستثمار ثرواتهم الهائلة لإسعاد الشعب ورفاهيته، ولكن الذي يجري منذ مدة، نسف مبرمج للدستور الضامن للديمقراطية والفيدرالية.

لما تقدم، لا يصدق تكييف النظام الحالي بأنه قائم على الدستور لا نصا ولا روحا، بل التكييف الصحيح هو أنه انقلاب على الدستور نصا وروحا، وانقلاب على الشراكة الوطنية، وتنكر لجهود الشعب الكردي وإقليم كردستان لتحقيق هذه الحرية التي يريدون الاستئثار بها لإقصاء الآخرين من القوى الفاعلة.

ولبيان حقيقة هذا الانقلاب نشير إلى أمرين واضحين وضوح الشمس في رابعة النهار، في كل واحد منهما تجد الانفصام واضحا بين الدستور وممارسات الواقع الذي يخالفه.

الأمر الأول، هو أن العراق الجديد قائم على التوزيع لا على التجميع، ويريد الحزب الحاكم الآن أن يقوم على التجميع لا على التوزيع، وهو (أي العراق الجديد) قائم أيضا على سيادة الشعب لا على سيادة الأمة، ويراد أن يقوم من جديد على سيادة الأمة ليقفز عليها القائد الضرورة أو الحزب الحاكم باسم الأمة، ومعلوم أن للشعب مفهوما ديمقراطيا يتساوى فيه الجميع، أما الأمة فذات مفهوم شمولي قد يتجسد في شخص القائد كما كانت الحال في النظم الفاشية والنازية والبعثية.

فقد نص الدستور في مادته الأولى على أن جمهورية العراق دولة اتحادية، ومقتضى الدولة الاتحادية أنها قائمة على توزيع السلطة والثروة، ومعلوم أن خارطة التوزيع في الدستور تميل لصالح الأقاليم والمحافظات لا لصالح الحكومة الاتحادية التي تسمى الآن أو توصف بالحكومة المركزية، وهذه التسمية بعينها اعتراف صريح بالانقلاب على الدستور، إذ ما سمح الدستور للحكومة الاتحادية إلا ببضع اختصاصات ذات شأن في عمل الدولة، كالخارجية والمالية وأمور الجنسية والتعداد السكاني ومشروع الموازنة العامة، وتتولى الأقاليم والمحافظات الشؤون الأخرى الخدمية وغيرها، ولكن الواقع هو أن الحكومة الاتحادية لم تعد اتحادية، بل عادت مركزية تحاول إعادة تجميع كل الاختصاصات تحت عباءتها، كما كان الأمر في عهد النظام الديكتاتوري السابق، وأن تنقل جلسات الحكومة الاتحادية المركزية من محافظة إلى أخرى يأتي ضمن هذا السياق الانقلابي على الدستور، وأما ما تمارسه المحافظات من بعض الصلاحيات فلا يخرج عن نطاق اللامركزية الإدارية الضيقة.

والدلالة المهمة الأخرى على التوزيع العادل في الدستور أنه حرص على أن يشمل توزيع الثروة كل فرد عراقي بشكل عادل، وما سمح لأي جهة بأن تتولى التوزيع وفقا لمعايير مرنة يضيع تحتها المواطن الفرد، قد تستغل لحرمانه من حصصه باسم المصلحة العامة مثلا، فقد حسم الدستور الموقف لصالح الفرد العراقي لا الأمة العراقية، فقرر أن يكون توزيع الواردات، وأهمها النفط والغاز، متناسبا مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد. المادة 112 أولا من الدستور.

ولأهمية التوزيع العادل للسلطة والثروة في النظام الجديد، ودرءا لمخاطر تسلل الثقافة الشمولية المركزية بحجة هيمنة الدولة والأمة من جديد، شرع الدستور بموجب المادة 105 هيئة عامة مستقلة تضمن هذا التوزيع العادل في كل مناحي حياة العراقيين، فأين هذه الهيئة؟

أليس من حق العراقيين أن يسألوا أين حقهم الآن؟

هذا ما يتعلق بالعراق عموما، أما ما يتعلق بخصوصية إقليم كردستان والشعب الكردي، وهو الموضوع الذي لم يفهموه بعد، أو تجاهلوه كما تجاهلوا استحقاقات العراقيين في حياة حرة كريمة لا ينغصها استعلاء قوم على قوم، فحدث عنه ولا حرج. ففي الوقت الذي اعترف الدستور الاتحادي النافذ في المادة 117 بواقع إقليم كردستان، كما هو، إقليما اتحاديا - وهو لم يؤسس أساسا وفقا لأحكام الدستور، كما ستكون الحال لو أسست أقاليم جديدة - يسعى دولة رئيس الوزراء في الحكومة الاتحادية سعيا يكاد يشغل كل همه، إلى قص أجنحته، وتقليم أظفاره، وإجباره بكل الوسائل على الرضوخ لأوامر البيت العالي دون أي اعتبار للدستور، أو لحقيقة أن إقليم كردستان هو وطن شعب آخر له خصوصيته القومية، وحمل معه هذه الخصوصية حين ألحق بالعراق عند تأسيسه بعد الحرب العالمية الأولى، وحين كون مع الجانب الآخر عراقا اتحاديا مشروطا بالفيدرالية والديمقراطية، أي الاحتفاظ بما هو واقع، وكان عليهم أن يعلموا ويذعنوا لحقيقة أن فرض سياسة استعلائية على إقليم كردستان في ظل هذا الدستور الضامن لوحدة العراق أو بدون هذا الدستور، أصبح من الماضي.

ولا يليق بهم، وهم أصدقاء أيام الشدة - ونتطلع بصدق إلى أن يظلوا أصدقاء كل الأيام، حاضرا ومستقبلا، في الرخاء والشدة - لا يليق بهم أن يجتروا تراث الفاشية المندحرة للتعامل مع قضية كردستان.

وأخيرا لا يحسن لمن عانى الظلم والتهميش أن يظلم، لهذا أظنهم لم يفهموا الموضوع بعد.. والسلام.

* نائب كردي سابق في البرلمان العراقي ورئيس منتدى الفكر الإسلامي في كردستان العراق