وداعا غسان تويني

TT

هناك رجال وهناك قامات. وغسان تويني كان قامة من النوع الاستثنائي جدا في زمن قلت فيه القامات. رحل غسان تويني عن عالمنا تاركا سجلا ومجدا أقل ما يمكن أن يوصف به أنه مبهر. كان لي شرف معرفة الرجل شخصيا، وذلك للصداقة والعلاقة الخاصة التي كانت تجمعه بوالدي والعشق المشترك الذي جمعهما بالسياسة والإعلام ولبنان والعالم العربي. غسان تويني كان خليطا فريدا ومميزا للأدب والثقافة والوجاهة الاجتماعية والمسؤولية السياسية والوعي الأكاديمي والرقي الإنساني والتميز الإعلامي. برع في كل مجال دخل فيه وترك بصمته المميزة. في مجال الإعلام، والصحافة منه تحديدا، تمكن من تأسيس مدرسة صحافية مميزة جدا، وباتت «النهار» إحدى أهم الصحف العربية في بلد صغير كلبنان، ولكن شديد التأثير، خرج من «النهار» نجوم صحافيون مهمون جدا أثروا بأقلامهم وفكرهم لبنان والعالم العربي.

فمن يستطيع نسيان ثقل وأهمية العمود الصحافي المؤثر لميشال أبو جودة، أو مقالات سمير عطا الله، أو سرد أنس الحاج، أو رقة ونعومة مي منسي، أو ريشة بيار صادق وكاريكاتيره اللاذع، وغيرهم من الأفذاذ. كان سياسيا ووطنيا يحرج غيره ويفضح خصومه بكبريائه وثقته ونقاء سريرته، وهي خصال لم يكن بمقدور مخالفيه مجاراته فيها، كان خطه واضحا ووطنيا بامتياز بلا شك وبلا تردد، وحتما بلا تبعية، وهي مسألة بقيت كذلك حتى وفاته، وعليه لم يستطع أحد أن يحمل عليه ذنبا أو خطيئة سياسية، وكان دبلوماسيا فذا مدافعا في الأمم المتحدة عن قضايا بلده الجريح بأسلوب متمكن وبليغ أبهر فيه جهابذة الدبلوماسية.

حتى في حياته الأكاديمية كأستاذ زائر أو محاضر متخصص كان يؤمن ويطبق على نفسه أولا كل المبادئ التي يتحدث عنها. كان عربيا ولكنه لم يكن مهووسا بالشعارات العربية، وكان حذرا من استغلال هذه الشعارات لكسب النفوذ والمصالح على أرض بلاده من الفرقاء العرب، سواء كانوا سوريين أو عراقيين أو مصريين أو فلسطينيين أو ليبيين. أبقى دار «النهار» وصحيفتها مستقلة بحق على الرغم من إغراءات المال وصعوبات الحال التي أصابت صناعة الصحافة الورقية، وهبوط التوزيع إلى معدلات منخفضة ومقلقة. كما حاز ثقة المعلن والقارئ لتبقى «النهار» الصحيفة الأولى في لبنان، وذلك على الرغم من المنافسة القوية مع الإصدارات المعروفة ودخول أكثر من صحيفة جديدة السوق، وتغير المناخ الإعلامي عموما في العالم، واستحداث وسائط جديدة أكثر فعالية وتأثيرا، وبقي الراحل شامخا مثل أرز لبنان الذي عشقه في كل محنه وأزماته وأوجاعه في فقدانه أعز الناس لديه: زوجته وابنيه، وترقى عن آلامه وأوجاعه ليبقى أمينا على مبادئه وتوجهاته وأهدافه وقيمه.

كان عاشقا ومدافعا عن الحرية لأبعد مدى، وكانت صحيفته، ولا تزال، المنبر الحقيقي لفكر الحرية في لبنان الذي لم يلوث بالطائفية والمال، فبقي نقيا مرآة للأستاذ غسان تويني نفسه. كانت لي شخصيا بعض المواقف اللافتة معه، وذلك حينما تقدمت إليه بطلب خطاب تزكية لي شخصيا لجامعة في الولايات المتحدة، وذلك بحسب طلب الجامعة كإجراء تقليدي متبع، وهاتفني يسأل عني وهو السفير لدى الأمم المتحدة، وتبادلنا أطراف الحديث عن السياسة و«رأيي» في بعض التطورات، وسبب اختياري للجامعة ومجال الدراسة، ولكم أن تتخيلوا أثر هذا الحوار من قامة مثل غسان تويني على طالب جامعي وقتها مثلي، كانت جرعة هائلة من الحماس والثقة أدت غرضها.

وبعد ذلك بسنوات طويلة رأيت الرجل في مناسبة عامة في أحد الملتقيات العربية، كان الرجل ينتظر في صالون جانبي ليقابل أحد المسؤولين، بحسب موعد مسبق، وتأخر وصول المسؤول عن الموعد، فما كان من غسان تويني إلا النهوض والتوجه للرجل المعني بالتنسيق الإداري وقال له: أنا حضرت بحسب الموعد وغير لائق الانتظار بلا عذر ولا سبب وسأنصرف، وأدار ظهره ورحل بكل عزة وكبرياء. والتقيته لآخر مرة في أحد المطاعم البيروتية بعد رحيل ابنه جبران بفترة، ودار بيننا حديث مختصر وعام، وبدت عليه علامات الزمن، ونال منه الإرهاق والتعب، ولكنه ظل شامخا مليئا بالكبرياء والعزة، وهو بقامته شخصيا وبقامة أسرته البيروتية العريقة. رحل غسان تويني عن عالمنا تودعه دموع محبيه وذكريات عشاقه عنه، تغلفه المحبة والاحترام اللامحدود.

سنفتقدك كثيرا يا أستاذ فالزمان قلما يجود بأمثالك.

[email protected]