حاجتنا إلى الوضوح النظري

TT

يرتبط الوضوح النظري (أو الوضوح في الرؤية) بالعمل السياسي ارتباط علة بمعلول. إذا تعذرت الرؤية، أو غدت عسيرة، فإن الممارسة السياسية برمتها تغدو تخبطا واضطرابا. فاعلون سياسيون يوجدون في مقدمة الركب، ومواطنون يلتمسون من القادة النصيحة والتدليل على السبيل الواجب سلوكها. نحسب أن هذا مبدأ عام مثلما أن هنالك قاعدة مقررة تقضي بأن الحاجة إلى الوضوح تصبح أكثر إلحاحا في فترات الأزمة وأحوال الانتقال المفاجئ أو الهزات العظمى. ولا نحسب كذلك أن العالم العربي يشذ عن هذه القاعدة أو يخرج عن المقتضيات الكلية للمبدأ المذكور أعلاه. وهذا الذي نقول عنه إنه الربيع العربي، ويبدو اليوم في موضع تشكك من الكثير من المثقفين العرب (بشهادة ما نقرؤه في المقالات الأسبوعية وما يتناهى إلى السمع من الأحاديث الهامسة)، يستدعي الوضوح في رؤية أصبحت اليوم معتمة. إن هذا الانتفاض العربي قد كان، عند الكثيرين، مفاجئا بقدر ما نعت بأن الزعامة الواعية تنقصه وبقدر ما كاد يكون خاليا من النظر الفكري ومن العمق الثقافي.

ومن جهتنا تحدثنا، من خلال هذا المنبر، عما نعتناه بانعدام المضمون الثقافي تارة، وبالافتقار إلى المواكبة الثقافية التي تقوم بعمل الإرشاد والتوعية اللازمين تارة أخرى. ومتى تأملنا ما يحدث الآن في مصر، بالنظر إلى المكانة المحورية لأرض الكنانة في وعينا الثقافي العربي من جهة، وبالتمعن في امتداد الدولة العسكرية واتصالها عقودا ستة متتالية، مع تنوع في أنماط الحضور وتباين في صيغ ممارسة السلطة التنفيذية، من جهة أخرى، فإننا نفهم لماذا ترتفع أصوات هنا وهناك تجأر بالشكوى من تعرض الثورة في مصر لعملية سرقة موصوفة (كما يقول رجال القانون، أي لسرقة تتم في وضح النهار). عندما نتابع ما يدور من نقاش وما يستعر من جدل في الفضائيات المصرية فنحن نميل إلى الاعتقاد بأن هنالك، من طرف قوى معلومة، جنوحا إلى إقحام الدين الإسلامي في معترك الصراع السياسي الذي هو بطبيعته صراع على البرامج واختلاف في الاختيارات الاقتصادية وفي الخطط والبرامج. هنالك «حاجة غلط» كما يقول المواطن المصري البسيط في تعبيره عن وعي عام عميق.

ولكن هذه الإشارة إلى مصر لا تعني البتة أن الأمر مقصور على أرض سعد زغلول ومصطفى كامل فحسب، بل إن البلوى، للأسف، تكاد تكون عامة. ليس من حيث هذا التوجه البعيد عن البراءة والتلقائية من حيث إقحام ما لم يكن الدين يطلبه وما لم تكن السياسة، من حيث هي إدارة للشأن العام وعمل على إحقاق الوجود السياسي السليم والحياة الاجتماعية الطبيعية، تقبله وتطيقه، بل من حيث إن هنالك حالا من التخبط (على النحو الذي يرد فيه نعت التخبط في القرآن الكريم، مقرنا التخبط بوجود الشيطان). غيوم كثيفة وتعتيم في الرؤية وابتعاد عما يكاد يكون جليا بذاته. إن الأمر يستدعي التذكير بأوليات، فالرجوع إلى الحق فضيلة. إن حال التخبط هذه توجب التذكير بالأوليات الكبرى التي تم التوافق عليها في التاريخ الإنساني الحديث وتقرها الأديان عامة ويحض عليها الدين الإسلامي خاصة، بالدعوة إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وبالتنبيه إلى أن شرع الله يقوم حيث تكون المصلحة، وإلى أن الشرع الإسلامي ينبه إلى العمل بما تستوجبه تلك المصلحة.

نريد في حديثنا اليوم، في هذه المرحلة الدقيقة والعسيرة من تاريخنا العربي المعاصر، أن نقوم بواجب التذكير ببعض تلك الأوليات والحقائق المقررة في الوجود السياسي المعاصر.

أولى هذه الحقائق، وما يبدو أن وجودنا السياسي العربي المعاصر ورياح الانتفاض العربي قد أتت لتؤكده وتعمقه في الأذهان، هي أن الدولة الدينية لا مكان لها في الوجود السياسي الحديث والمعاصر، فهي نمط من الوجود السياسي ينتمي إلى العصور الوسطى وبالتالي يرجع إلى حال من الوجود سابقة على ميلاد كل المجتمع والفكر السياسي الحديثين. هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية، بحسباننا مسلمين عربا نتوق إلى الانتساب إلى العصر حقيقة ونطمح إلى بناء دولة المؤسسات والقانون، ونتوق إلى بناء الديمقراطية الحقة وإلى بناء دولة المواطنة والرفاه معا، يلزمنا أن ندرك بوضوح أنه لا مكان في الإسلام ولا وجود للدولة الدينية. لا يستقيم الوجود السياسي السليم الذي ترتضيه الشريعة السمحة إلا في وجود سياسي تكون الدولة فيه مجموعة من المؤسسات والقوانين ويسود فيه العدل وتتحقق أسباب الحرية ومقتضيات احترام حقوق الإنسان. ونحن لو رجعنا إلى التراث العظيم لفكر النهضة، بل لو صعدنا في الزمن إلى ما كان أبعد من ذلك لنقرأ ما كتبه كبار مفكري الإسلام السياسي في الإسلام، لوجدنا للدولة في الإسلام معنى يجعل بينها وبين الدولة الدينية بحورا وجبالا وفوارق في النوع والصفة والأهداف.

ثانية الحقائق التي يجب استحضارها والتذكير بها هي أن الممارسة الديمقراطية، الحقة لا الزائفة، تقوم على قبول التعدد والاختلاف، بل وعلى سَن القوانين التي تحمي الحق في الاختلاف. ولأمر ما، جعلت دساتير البلاد الديمقراطية، صدقا لا ادعاء، همّا ثابتا لها رعاية مصالح الأقلية حتى لا تغدو كمّا مهملا، وحرصت على التمثيلية الفعلية الصادقة لقوى المجتمع في مجالسها التشريعية بل والتنفيذية، حتى لا تغدو الأغلبية همجية وطغيانا وتنقلب ظلما ومصادرة للحريات. الممارسة الديمقراطية الحقة ليست مجرد اعتراف بالمواطنة وقبل الانتساب إلى الوطن الواحد على أساس الولاء والاشتراك في الجنسية وليس على أساس آخر يرجع إلى عرق أو دين أو لغة. والممارسة الديمقراطية الحقة تعني سيادة القانون والمساواة التامة أمامه، وأول ما يقتضيه هذا الأمر الدفاع عن استقلاله التام والمطلق عن كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية. والممارسة الديمقراطية الحقة تقتضي وجود المجتمع السياسي في استقلال وتمايز تامّين عن المجتمع المدني، فلا تجاوز لكل منهما لدوره وأهدافه ولا تشوق إلى التشويش على الآخر والاعتداء على مجاله ودائرة عمله.

ثالثة الحقائق الواجب استحضارها والتذكير بها هي أن الدولة، من حيث هي نظم ومؤسسات ووسائل لحماية تلك النظم والمؤسسات، تجلٍّ للعقل وحضور فاعل له في التاريخ، وبالتالي فإن تحقق الحرية واحترام حقوق الإنسان لا يعنيان البتة الإساءة إلى الدولة من حيث هي ما ذكرنا، وبالتالي فإن المعارضة السياسية مثلا لا تكتسب معناها الحق وشرعيتها الكاملة إلا في احترام النظم والمؤسسات والقوانين التي تقوم الدولة من أجل حمايتها.

ينتج عن هذا أمر بديهي، وحقيقة أخرى نرى أننا في حاجة إلى استحضارها والتذكير بها، وهي أن السمة الأولى، الأساس الذي تكتسب به الدولة شرعيتها، هي قدرتها على إحقاق الأمن وحماية المواطنين، وقدرتها على حفظ القانون وإيلائه المكانة الأعلى في الوجود السياسي. ولو أننا سطرنا للدولة، في أحوال الاضطراب والتردد، سلم المهام الواجب عليها النهوض بها لوجدنا، دون شك ولا تردد في القول، أن المهمة الأولى التي تقصي ما عداها متى كان الأمر يستوجب المفاضلة والاختيار هي مهمة استتباب الأمن وتحقيقه. ولو أننا رجعنا إلى الأدب السياسي الإسلامي الغزير لوجدنا أن فقهاء الفكر السياسي في الإسلام يجعلون تحقيق الأمن في مقدمات المهام والأهداف، والفكر السياسي الإسلامي ليس في هذه الحال استثناء ولا شذوذا وإنما هو يؤكد حقيقة إنسانية شمولية.

حالنا اليوم، في الوطن العربي، يجعل من التذكير بجملة هذه الحقائق الأولية وضوحا نظريا في رفع الوله والحيرة، والإرشاد إلى سبيل الخير والصلاح.