طرابلس على نار حامية

TT

طرابلس في سباق بين تهدئة تنقذها أو تفجير يدخلها الجحيم. لبنان كله يتحسب مما يمكن أن يستجد في شماله وشرقه، حيث صوت الرشاشات والقصف المدفعي يهدر آتيا من الأراضي السورية. بيروت هي الأخرى تعيش على وقع التطورات الدمشقية، فالشرارة التي قد تشتعل لن يبقى لهيبها محصورا في المكان.

طرابلس الحلقة الأضعف، سكانها يتوقعون الأسوأ. ثمة شائعات في المدينة، تقول إن الهدنة الحالية ليست سوى استراحة محارب، بينما يتمكن التلاميذ من إنهاء عامهم الدراسي، ليبدأ الاقتتال «الأشرس». شائعات ليست مبنية على وهم، بقدر ما هي ابنة وقائع يومية يراها الناس بأم أعينهم. الدشم والمتاريس في المنطقتين الأكثر حساسية، أي جبل محسن وباب التبانة، تزداد في ورشة تحضير لجولات حامية من المعارك. الجهتان تتحسبان وكأنما الأمن بات عصيا على التصديق. أجواء تشجع حتى من لا يريد اقتناء سلاح على التفكير في ادخار بعض المال لشراء قطعة قد تحميه في ظروف سوداء لا يجد فيها من يرد عنه الأذى.

أكثر ما يشعر بالخوف تكرار ظواهر خبرها الأهالي مع اندلاع الحرب الأهلية اللعينة. خطف لأبرياء، اعتداءات على مدنيين، حرق لمحال تجارية، وتهديد لطائفة بعينها، يطلب منها أن تغادر المدينة.

خلال الحرب الأهلية اللبنانية، في سبعينات القرن الماضي، أفرغت طرابلس المتسامحة، المختلطة والقومية الهوى، من مسيحييها. أحرقت الميلشيات الغوغائية منازل المسيحيين بعد أن نهبت ممتلكاتهم أو رمتها من النوافذ. المحلات بدورها سرقت ودمرت، هكذا فقدت المدينة تلاوينها وتعدديتها التي منها كانت تستمد النبض والحيوية. السيناريو نفسه يبدو أنه يتكرر اليوم. أمر لا يبشر بخير. ما معنى أن يتم الاعتداء على مواطن أعزل يسير في الشارع بضربه أو طعنه بالسكاكين لمجرد أنه علوي؟ لصالح من تحرق محلات أبناء هذه الطائفة التي تتوزع في مختلف أنحاء المدينة، بينهم الحلاق، وبائع التليفونات، أو صاحب المقهى، وربما مجرد بائع خضار؟ الذعر بات يصيب كل المواطنين، باختلاف انتماءاتهم، الذين يشعرون بأن ثمة مخربين لا يجدون من يردعهم أو يردهم. أبو علي صاحب مغسل السيارات، الرجل المسالم، الذي يعنى بنظافة وهندام سيارات ربع أهل طرابلس، ويخدمهم بعينيه وبأدب جم، أحرقوا مغسله، وهُدد وأجبر على البقاء في البيت. لا أحد يعرف لماذا منع أبو علي من فتح محله؟ من أزعج هذا الرجل الذي يسعى إلى رزقه كل صباح حتى غروب الشمس، ومن المستفيد من خراب بيته؟ ولماذا أحرقت مكتبة خليل مقابل الجامعة اللبنانية، والذي يعرفه الطلاب والدكاترة ويتزودون منه بالكتب؟

أين هي الدولة التي تحمي مواطنيها لأي ملة انتموا، وأيا كانت آراؤهم أو أحلامهم؟ وكيف للمرء أن يعيش آمنا ما دام اختلافه، عن أي آخر كان، قد يعرضه للموت أو الخطف أو السرقة؟

كما ذعر الطرابلسيون حين اعتدي على مسيحييهم وهرعوا لحمايتهم برموش العين في السبعينات، ها هم يرون برعب اعتداءات على طائفة أخرى، ثمة من يريد تهجيرها من المدينة. ستزداد طرابلس بهوتا وشحوبا إذن، وأبناؤها يطردون من رحمها، طائفة بعد أخرى، حتى تغدو منبوذة وملعونة، لا يدخلها إلا المضطر لقضاء مصلحة.

هيئات المجتمع المدني وممثلو النقابات الذين التقوا رئيس الجمهورية ميشال سليمان قبل انعقاد طاولة الحوار يوم الاثنين الماضي، سلموه مذكرة باسم الطرابلسيين، وطالبوا باسم أغلبية تشعر بالقهر والاعتداء على سلمها، بإنقاذ المدينة. رفضت مذكرة الطرابلسيين «كل محاولات إثارة الفتن في المدينة، من خلال المعارك وإلقاء قنابل مجهولة المصدر أو حرق ممتلكات وخطف مواطنين». المذكرة وزعت على كل السياسيين المشاركين في الحوار ليدركوا عمق المعاناة. محق أمين الجميل حين قال إن «صدقية الطبقة السياسية برمتها باتت على المحك من 14 و8 آذار»، إن لم يؤخذ بعين الاعتبار قلق الناس وهمومهم. البيان الذي صدر عن المجتمعين فيه اتفاق، على رفض إقامة منطقة عازلة في لبنان، وعدم استعمال لبنان مقرا أو ممرا لتهريب السلاح والمسلحين إلى سوريا والتزام القرارات الدولية. مقررات في غاية الأهمية لكنها لم تثلج الصدور. السياسيون اللبنانيون يكذبون كما يشربون الماء. الناس يعرفون ذلك ولا يثقون في ما يسمعون. طاولة الحوار الثانية المنتظرة يوم 25 من الشهر الحالي، من الضروري أن تذهب إلى مزيد من التفاهمات. بانتظار ذلك التاريخ على الزعامات أن تثبت أنها كانت صادقة في بيانها الذي صدر، وأنها تريد أن تحمي المواطنين، لا أن ترمي بهم إلى التهلكة.

موجات العنف تتصاعد في سوريا. الخارجية الفرنسية تتحدث عن قلقها من «أن تكون مجازر جديدة تحضر». مخاوف لها ما يبررها مع عزم النظام السوري على أن يضرب عرض الحائط بوجود المراقبين الدوليين ويواصل شن هجمات شرسة ضد المعارضين، مستعينا بالمروحيات والمدفعية، في محاولة لكسر شوكتهم مهما كان الثمن.

سوريا تلتهب، وإلحاق الشمال اللبناني بالجحيم السوري لن يخدم السوريين بالقدر الذي يتمنون أو يظنون، لكنه حتما سيوسع رقعة الموت، ويدخل لبنان كله في دائرة جهنمية. الحل السوري لا يمكن أن يأتي من لبنان. اللبنانيون لا يجيدون إطفاء الحرائق، لكنهم للأسف محترفون في إشعالها بأنفسهم وبمن حولهم. وهنا تكمن المأساة.