الأسبرين.. والطب المبني على البراهين

TT

ليست الميزة الأهم في الطب الحديث هي التقدم المذهل في إجراء العمليات الجراحية المعقدة والدقيقة، ولا الاكتشافات الرائعة في علاج أعتى الأمراض، ولا غيرها من المخرجات التي تخطر على ذهن كثيرين عند ذكر التطورات الحالية للطب، ولكن الحقيقة هي أن «السر» و«الضمانة» و«الدافع» للتطورات الطبية هو اعتماد مبدأ ممارسة الطب التشخيصي والعلاجي والوقائي المبني على البراهين العلمية المؤيدة evidence base medicine. ومن دون تمسك الأوساط الطبية بهذا المبدأ، تخسر الدراسات الطبية أحد أهم دوافعها، وتتلاشى ضمانة نجاح المعالجة أو الوقاية الطبية، وتغدو العلوم الطبية بلا سر الهوية الذي يميزها عن أي «مهنة» أخرى.

والعشوائية في تناول البعض جرعة منخفضة من الأسبرين low-dose aspirin مثال على تلاشي ضمانة الاستفادة الطبية في الجوانب الوقائية من أمراض شرايين القلب التاجية، وذلك حينما يتم تناوله بشكل يومي بناء على نصائح غير ثابتة الفائدة تصدر من بعض الأفراد في الوسط الطبي. والجرعة المنخفضة من الأسبرين هي أقل من 300 ملغم يوميا.

وبداية، فإن الأسبرين عقار خافض للحرارة ويخفف من عمليات الالتهابات ويقلل من التصاق الصفائح الدموية بعضها ببعض في الأوعية الدموية. وأهل الطب القديم مثل أبوقراط وغيره لاحظوا أن تناول القليل من منقوع لحاء سيقان أشجار الصفصاف يخفض حرارة الجسم. ولكننا انتظرنا إلى نهايات القرن التاسع عشر كي يعزل الألمان لنا المادة الفاعلة لتخفيف ألم المفاصل في ذلك اللحاء وهي حمض السليسليت، ثم انتظرنا إلى ستينات القرن العشرين كي يلحظ لنا أطباء كاليفورنيا أن تناول مرضى جلطات النوبة القلبية قرصا يوميا من الأسبرين كفيل بتقليل الوفيات بينهم إلى حدود تقارب 40%.

إن مرض شرايين القلب هو المسؤول الأعلى عالميا عن الوفيات البشرية في كل عام، وإزاء ضرورة العمل على الوقاية من هذا المرض الشائع، «تفتقت» الأذهان الطبية عن النصيحة بتناول قرص الأسبرين يوميا لعموم الأشخاص الأصحاء الذين تجاوزوا الأربعين أو الخمسين من العمر. ولكن نظرا لعدم اعتماد الأوساط الطبية مبدأ الطب المبني على البراهين، استمرت تلك النصيحة بالانتشار وأصبح الأطباء يرددونها على مسامع الناس.

إلا أنه منذ تسعينات القرن الماضي بدأت بالظهور دراسات طبية مقارنة تقول لنا بصريح العبارة إنه لا جدوى من تناول «جميع» الناس الأسبرين يوميا للوقاية من أمراض شرايين القلب بمجرد بلوغهم سن الأربعين أو الخمسين ولا حتى الستين أو السبعين، بل هناك مخاطر في ذلك.

وللتوضيح، ثمة ما يدعى «وقاية متقدمة» و«وقاية أولية»؛ إذ إن تناول المرضى الذين سبقت إصابتهم بالجلطة القلبية قرص الأسبرين يوميا هو «وقاية متقدمة»، وتناول الأصحاء الأسبرين، أي الذين لم تسبق إصابتهم بالجلطة القلبية ولم يتم تشخيص إصابتهم بمرض في شرايين القلب، هو من قبيل «الوقاية الأولية». وأولى بديهيات اعتماد شيء بوصفه وقاية هو أن لا يتسبب بأضرار تفوق الفوائد المرجوة منه risk-benefit ratio.. ولذا حينما يدرس الباحثون الطبيون اعتماد دواء أو سلوك وسيلة للوقاية الأولية، فإنهم يقارنون بين نسبة وقوع الآثار الجانبية السلبية لتك الوسيلة أو ذلك الدواء، ونجاح وسيلة الوقاية في منع الإصابة بالمرض الذي يحاولون الوقاية منه.

وحصول درجة مهمة من نزف في المعدة أو في الدماغ هما من أهم الآثار الجانبية المحتملة للمداومة على تناول الأسبرين يوميا. وفي حال الوقاية المتقدمة، ثبتت فائدة الأسبرين في منع الإصابة بالوفيات أو تكرار الإصابة بالجلطة القلبية بما يفوق احتمالات الإصابة بالآثار الجانبية الرئيسية للأسبرين. أما في حال الوقاية الأولية، فإن الأدلة العلمية تردنا تترى بالتنبيه إلى أن الأمر يحتاج إلى تفصيل ودقة، وأن نهج النصيحة العمومية لكل من تجاوزوا سن الأربعين أو الخمسين ليس صحيحا، وربما ضار.

وما دلت عليه تلك الدراسات الطبية الحديثة، وما تتبناه النصائح الطبية المبنية على البراهين العلمية هو أن على الطبيب أن يدرس الحالة الصحية لكل شخص يستشيره في هذا الأمر. وإن وجد أن التقييم الطبي يشير إلى أن احتمالات إصابة الشخص بأمراض شرايين القلب خلال السنوات العشر المقبلة تفوق نسبة 15% أو أن الشخص مصاب بمرض السكري، فإنه ربما يكون من الضروري تناول الأسبرين. أما إذا كانت الاحتمالات تلك أقل من 6%، فإن النصيحة هي عدم تناول الأسبرين لأن احتمالات الإصابة بنزف المعدة أو الدماغ أعلى من احتمالات الاستفادة في منع الإصابة بجلطة النوبة القلبية.

ومن أواخر فيض هذه الدراسات تلك المنشورة في عدد 6 يونيو (حزيران) الحالي من مجلة الجمعية الطبية الأميركية للباحثين من إيطاليا، الذين تابعوا المقارنة فيها لمدة ست سنوات، بين تناول نحو 200 ألف شخص من الأصحاء الأسبرين بشكل يومي ممن هم فوق سن الثلاثين من العمر، وعدم تناول مجموعة مماثلة في العدد والصفات، الأسبرين. والأصحاء قصد بهم أولئك الذين ليس لديهم مرض السكري أو ارتفاع ضغط الدم أو تاريخ عائلي قوي في الإصابة بأمراض الشرايين القلبية. وتبين أن الخطورة النسبية للإصابة بنزف المعدة أو نزف الدماغ أعلى بنسبة 55% في مجموعة متناولي الأسبرين.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]