لقطات بين الصحافة والسياسة

TT

تعمدت تجنب التعليق على الانتخابات الرئاسية الجارية التزاما بالشروط المصرية للتغطية الصحافية. لكني أختار ما قد يجد البعض، خاصة الصحافيين، فيه تأملات تصلح «غذاء للعقل» food for thoughts (الترجمة الأقرب للقصد «وقودا للمصابيح الفكرية») في وقت تسعى فيه الشعوب للديمقراطية.

أختار لقطة من أعرق الديمقراطيات وأكثرها رسوخا واحتراما للقانون، توضح علاقة الصحافة، كسلطة رابعة، وكممثل للرأي العام، بشقي المؤسسة السياسية: الحكومة، ومرآتها أي المعارضة البرلمانية.

اللقاء الصباحي (ضمن لقاءين يوميا) يوم الاثنين بين المجموعة الصحافية البرلمانية (مقرها مجلس العموم البريطاني)، ومجموعة المستشارين لدواننغ ستريت برئاسة المتحدث الرسمي (يومها كان سيدة لكن نسميها وفق الوظيفة الرسمية ولا نؤنثها)، والمتحدث هو موظف دولة وليس الحكومة، لأن الديمقراطية البريطانية تفصل الدولة الثابتة المؤسسات والتي ترأسها الملكة، عن الحكومة المتغيرة بالانتخابات.

ولأن المتحدث خادم تاج (civil servant) أي موظف دولة غير منتخب، فالتقاليد تتطلب عدم نشر اسمه. تركز 90 في المائة من وقت اللقاء الذي استمر 43 دقيقة (عادة 15 دقيقة) على موضوع واحد. سبق خاص لـ«الصن» الشعبية يوم الأحد (عطلة نهاية الأسبوع) من معلومات مصدرها جرسونات مطعم «المحراث» (Plough) القريب من المسكن الريفي (chequers) الذي يقضي فيه رئيس الوزراء عطلة نهاية الأسبوع والإجازات القصيرة ويستقبل فيه ضيوفا وزائرين رسميين في العطلة.

والمسكن مملوك للدولة تعيره لرئيس الحكومة، لكن الطعام ومصاريف الإقامة يدفعها الرئيس من راتبه الخاص (142 ألف جنيه إسترليني سنويا قبل ضرائب الدخل من وظيفتين كرئيس حكومة وكنائب برلمان يدفع منها رواتب الباحثين في مكتبه)، وهو أقل من راتب رئيس قسم في صحيفة كـ«الغارديان» أو دخل طبيب.

توقف رئيس الوزراء وزوجته وأطفاله الثلاثة، والتقى في مطعم «المحراث» مع أسرتين من الأصدقاء، ثم ركب سيارته وتبعته الزوجة والأولاد في سيارة الأسرة الخاصة (فسيارة الدولة لتنقلاته الرسمية وليس لركوب الزوجة والأطفال) متوجهين للمقر على بعد ميلين. في البيت اكتشفوا غياب طفلتهما نانسي ابنة الثامنة. كاد رئيس الوزراء يصاب بنوبة قلبية، واتصلوا بالمطعم، فاكتشفوا أنها ذهبت للتواليت من دون إخبار أبويها، وجرسونة في المطعم ترعاها، وأسرعت الأم إلى المطعم واستعادت الطفلة.

ما أود تقديمه للقارئ هو محاور الأسئلة وطريقة الإجابة كجهاز إرشاد قيادة (سات - ناف) تهتدي به صحافة البلدان التي لا تزال تبحث عن خريطة طريق في العلاقة مع مؤسسات سياسية لم تتضح ملامحها بعد، وثوار يتنازعون مقود السيارة، ويجادلون عند تقاطع الطريق أي اتجاه يسيرون.

نسيان الأسرة لطفل في متجر أو مطعم أو قطار حادثة مرت بها غالبية الأسر، لكن في حالة رئيس الوزراء طرحت الأسئلة حول الأمن الشخصي لرئيس وزراء يتهدد الإرهاب بلاده لدورها في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.

إجابة السؤال المتوقع طبعا أن المتحدث الرسمي لا يبحث ترتيبات الأمن التي تصر الأجهزة على بقائها سرية لأسباب بديهية.

الحراسة لتحركات رئيس الحكومة (باستثناء مصاحبة نظير أجنبي) تكاد لا تلاحظها العين (رجل بوليس سري واحد بملابس مدنية، وجهاز راديو يتصل ببوليس المرور بالموتوسيكلات الموجود أصلا في شوارع المدن وطبعا غير موجود في الريف حيث مقر العطلة) مقارنة بالموكب الهائل بالموتوسيكلات للرئيس الأميركي والرؤساء الأفارقة والعرب (غير المنتخبين).

أعاد الصحافيون صياغة السؤال: سيارة رئيس الوزراء مملوكة للدولة يمولها دافع الضرائب من حقنا السؤال من ركبها؟

رئيس الوزراء وحده استقلها، ظانا أن الطفلة في سيارة الأسرة (لا ينفق دافع الضرائب عليها) مع زوجته، بينما ظنت الأم أن نانسي مع إحدى الأسر الأخرى.

السؤال للاستفسار عن الأسر الأخرى، رفض المتحدث الرسمي الإجابة عنه، لأن رئيس الوزراء لم يكن في مهمة رسمية أو حكومية، وأنها علاقات شخصية، وبالتالي علينا كصحافيين أن نسأل سكرتيره الشخصي (وأجره من جيب الرئيس الخاص) المحسوب على (وقد يتلقى الأجر من) حزب المحافظين.

إجابة تفصل ما بين الشخصي والرسمي، وما بين الحكومة والحزب.

الإجابة نفسها كانت عن السؤال عن كمية الشراب التي تناولها رئيس الوزراء مع أسرته، لأنه كان في عطلة يوم الأحد، في إجازة راحة مع الأسرة والأصدقاء، وليس عملا حكوميا، وبالتالي السكرتير الشخصي يجيب عن هذه الأسئلة.

من وجهة النظر الصحيفة لم يكن الأمر يتعلق باتهام (أو الإشارة ضمنيا إلى) رئيس الوزراء بأنه تناول من الشراب أكثر مما ينبغي (صاحب السؤال كان مراسل أكثر الصحف دعما للمحافظين)، ولكن يتعلق بمسألة هي محل نزاع بين الصحافيين والساسة والمشاهير (وهي في صلب تحقيق اللورد ليفيسون القضائي في أداء الصحافة) عن تعريف الخصوصية.

من وجهة النظر الصحافية، فإن ما يفعله زعيم أو شخصية مشهورة في حياته الخاصة يجب أن يتسق مع ما يدعو الآخرين إليه علنيا من سلوك وأخلاقيات (وهذا مثلا سبب اهتمام الصحافة المصرية بحكاية رجل دين هو نائب برلماني سلفي متزمت تشير تقارير بوليسية إلى تحرير محضر له لوجوده في وضع مخل مع سيدة في سيارة على طريق عام).

أحد الأسئلة التي طرحت، واضطر المتحدث الرسمي للرد عليه، رغم خصوصيته، هو ما إذا كان قسم الشؤون الاجتماعية في المجلس المحلي للحي الذي يقيم فيه رئيس الوزراء سيبعث بإخصائي اجتماعي لزيارة الأسرة أم لا.

السبب أنه في حالات مشابهة عندما يتوه طفل من الأب أو الأم أثناء التسوق، أو يصل لعلم المجلس ما يدعو للشك في التقصير في رعاية الطفل، يضع الإخصائيون الاجتماعيون الأسرة تحت الملاحظة لبضعة أشهر، وبالتالي لا يمكن أن تؤدي مكانة الأب أو منصبه إلى استثنائه من لوائح تطبق على الناس العاديين.

بعد يومين نقلت الصحف عن رئيس القسم الاجتماعي في المجلس المحلي أنه طلب تقريرا من ناظرة مدرسة نانسي كاميرون عن سلوكها، وحالتها الصحية والنفسية، ومواظبتها على الدراسة، وأنه بعد فحص التقرير قد يقرر إرسال إخصائيين لمقابلة الأبوين ومقابلة الطفلة على انفراد للتأكد من قيام الأبوين بواجبهما التام تجاه الأطفال.

جزء من حوار الصحافيين مع المسؤولين أقدمه لتأملات الزملاء المصريين والعرب.