صيف الربيع العربي

TT

صيف الربيع العربي هو الاقتصاد الذي سوف يصيب الربيع بالجفاف، إن لم يتم الانتباه عميقا له. لقد أردت أن أضع عنوانا لهذا المقال «إنه الاقتصاد يا ذكي!»، نكاية في شعار بيل كلينتون الذي أوصله إلى الرئاسة الأميركية مرتين، حيث تبنى شعارا يقول «إنه الاقتصاد يا غبي!». القصة الحاكمة في التغيير الربيعي العربي هي الاقتصاد، إن نجحت السياسة الاقتصادية نجح الربيع، وإن فشلت فشل، بعضهم يريد أن يحول ترياق الربيع إلى آيديولوجيا، وهو إن فعل ذلك - كما هو متضح من سير الأحداث - فأنا أبشره بربيع آخر أكثر جذرية وأعنف من سابقه، حيث إن الترياق في الاقتصاد.

كيف؟

لم تعد الأسباب الاقتصادية محل نقاش كونها التي دفعت بالآلاف ثم الملايين إلى الشوارع، يكفي أن نتذكر محمد بوعزيز وأيضا خالد سعيد، حتى نستدعي الأسباب الاقتصادية التي كانت محركة لكل ما حدث في الربيع، أضف إليها أن ثلثي السكان العرب هم دون سن الثلاثين من العمر، شباب يطلبون العمل ومعه العدل وفرص اقتصادية تقنعهم بأن هناك محاولة جادة لتوزيع الثروة الوطنية على ندرتها، وإذا تذكرنا أن الصادرات العربية (غير النفطية) إلى العالم هي أقل من 1 في المائة، وأن التجارة البينية بين العرب وهي الأقل في العالم في إقليم واحد، نتعرف على هذا التناقض الحاد بين التواصل العربي من جهة «تأثير الربيع وانتقاله من بلد إلى آخر»، وبين القطيعة الاقتصادية العربية، عدا مساعدات من بعض دول النفط، أو من خلال ما يحوله العاملون في دول النفط إلى أوطانهم من مال. وعليه فإن التحدي الأكبر لدول الربيع هو إنقاذ الاقتصاد، لا توزيع الآيديولوجيا. التحدي الاقتصادي لدول الربيع تواجهه ثلاث عقبات على الأقل؛ الأولى أن ثورات الربيع قد خلقت أشياء من الفخر الوطني أو القومي المحلي، والاعتزاز بالقدرة الذاتية، وهذا يقود إلى تبني سياسات اقتصادية تحمل الكثير من «الحمائية» و«التخطيط المركزي» من أجل توزيع ثمار التنمية، أكثر عدلا من وجهة النظر تلك، وقد سُمعت أصوات تتجه هذا الاتجاه، عن طريق المطالبة بالعودة إلى «التأميم» وتقليص فرص رجال الأعمال في حرية العمل خارج خطط الدولة، استجابة لمشاعر العامة بأن رجال الأعمال بالضرورة سراق للمال العام، بل وحتى النكوص عن اتفاقات مع شركاء أجانب أو عرب قامت الإدارات السابقة بإقناعهم بالاستثمار، ذلك النكوص يبرر بدواع مختلفة، منها أن تلك الاتفاقات كانت مجحفة أو لحقها عوار قانوني، هذا التوجه الاقتصادي يعتمد على الريعية بدلا من الإنتاجية، وعلى الزبائنية بدلا من الشمول. إنه يطلق شعارات يستسيغها الجمهور، ولكن لا تؤدي إلى نمو اقتصادي حقيقي. تلك السياسات ليست خالية من التبرير، فقد كان النمو الذي حققه الاقتصاد المصري والاقتصاد التونسي في التسعينات من القرن الماضي، نموا ملحوظا، إلا أن ثمار هذا النمو ذهبت للقلة المتنفذة، ذلك الفشل خلق رأيا عاما مضادا لآليات السوق والاعتماد عليها من أجل اقتصاد قوي. حقيقة الأمر أن الفشل كان لا بد أن يوجه إلى آليات الإدارة، وليس آليات السوق، وتم الخلط بين الاثنين، دون وجود بديل حقيقي اليوم في سوق عالمية متداخلة معتمدة على آليات السوق، بشروط الشفافية وسيادة القانون.

العقبة الثانية أمام إدارة دول الربيع العربي الجديدة، التساؤل كيف يمكن تحقيق توقعات شعبية عالية السقف لرفع مستوى المعيشة وتوزيع عادل للدخل، في ظل اقتصاد يواجه عدم الاستقرار ويحقق نموا ضعيفا، بل ويتجه إلى الانكماش، في ظل استنزاف للاحتياطي الذي تراكم تحت عباءة الأنظمة السابقة، إلى درجة أن بعض السياسيين في دول الربيع يلومون «المبلغ» عن الحريق، ولا يعترفون بمشعل الحريق، فبعض اللوم تضعه الحكومات على «محافظي البنوك المركزية» الذين يشعرونهم بتدني الاحتياطي النقدي كل صباح. لقد أعطب احتمال النمو الاقتصادي في بلدان الربيع بسبب عدم الاستقرار والشعارات السياسية وتفشي الخلافات السياسة بين المتسابقين على الاستحواذ، فبلاد تعتمد في جزء ملحوظ من دخلها على السياحة، مثل تونس ومصر، وعلى تجارة التوزيع وعلى مشاريع البناء كل تلك القطاعات عانت من التذبذب والقلق، فلم تعد السياحة كما كانت لأسباب واضحة، هي عدم الاستقرار مشفوعا بصيحات منفرة لفكرة السياحة، كما عرفت في السابق، هذا سبب تراجع واضح في كلا الاستثمارين المحلي والخارجي. من أجل إشباع التوقعات المتصاعدة من الجمهور، فإن القوى الحاكمة الجديدة مطالبة بوضوح أكثر في خططها الاقتصادية، هل هي إلى تقليص دور القطاع الخاص أو تركه ينمو وهل هي تضع «الآيديولوجيا» قبل مهنية الاقتصاد أم العكس؟ كلها أسئلة لم تجب عنها بعد القوى الجديدة، بل هي في تناحر بين «معتدلين» فيها و«متشددين» حولها! حتى الآن فإن أزمة اقتصادية خانقة لم تحدث، لقد تم تعويم جزء من الاقتصاد في دول الربيع من خلال المساعدات الخارجية المباشرة أو غير المباشرة، وخاصة من الحكومات النفطية، ورغم أن تلك الحكومات ترى أن استثمارات مواطنيها تنتزع بغير مسوغ قانوني، وهي تستجيب على أمل أن تتبلور خطط اقتصادية لها ثقة معقولة في المستقبل.

العقبة الثالثة هي التي يفرضها السؤال كيف يمكن تطوير اشتباك إيجابي مع الاقتصاد الإقليمي والاقتصاد العالمي في وقت يشهد فيه الاقتصاد العالمي أسوأ فترة مرت عليه منذ الكساد العالمي الكبير في القرن الماضي، وهو اقتصاد لا يزال يؤمن بدور فاعل للقطاع الخاص، وأي سياسات مضادة لتلك الفلسفة سوف ينظر إليها من الغرب بعين الريبة والحذر، كما أن مؤشرات الطلب على النفط في تراجع، وهو المكون الأساسي في تغذية التنمية جزئيا في بلاد ربيع العرب؟ ثم ما هي السياسات التي سوف تتبناها حكومات الربيع تجاه محازبيها خاصة في دول الخليج، هل سوف تتجه لاحتضانهم لتكوين تيار مترابط يدعو إلى التغيير، كما حدث في الموجة الأولى من تيار القومية العربية في الخمسينات والستينات، وتفتح أحضانها إلى أشكال من التجمع والتآزر والدعوة، وقد بدأت تباشير ذلك في بعض المظاهر تتضح، وهو ما سوف يجعل سياسة التردد في الخليج للدعم الاقتصادي قائدة التفكير، أم أن تلك القوى الجديدة المنتفعة من الربيع سوف تنظر إلى التحدي على أنه داخلي صرف (أي وطني محلي) وتنأى بالنفس عن التدخل السافر الذي قد يعتبر عدائيا لدى تلك الأنظمة؟ تلك أسئلة لها علاقة بالاقتصاد كما أن لها علاقة بالسياسة. نجاح أو فشل الاقتصاد هو الموضوع الحقيقي لنجاح أو فشل الربيع العربي، وتغطية أي فشل بشعارات آيديولوجية، لن تنفع على المدى المتوسط، إذ ستعود الأسباب تتراكم وتخلق حالة تماثل حال قبل حلول الربيع.

آخر الكلام:

بعد صدور حكم المحكمة الدستورية في مصر بحل البرلمان سُمعت أصوات مضادة لهذا الحكم وهناك تذمر واسع بل دعوة لعدم تنفيذه، في الوقت الذي تطالب فيه تلك المجموعات علنا وبإصرار بإقامة دولة مدنية، ولم يتبين لها التناقض، إذ إن أول أركان إقامة الدولة المدنية هو الانصياع للقانون!