تراجيديا يونانية 2012!

TT

لا يمكنك الحديث مع الاقتصاديين والعاملين في القطاع المالي هذه الأيام دون أن يكون لمصير اليورو ومستقبل عضوية اليونان في السوق الأوروبية نصيب مهم من هذا الحديث. في الأيام القليلة المقبلة ستتضح رؤية بوصلة مستقبل اليونان التي ستصوت على قرارات مهمة؛ من ضمنها قبول خطة تقشف صارمة ستؤثر على مداخيل الشعب وقدرات البلاد الاقتصادية في سبيل سداد القروض التي عليها، أم أن عليها قبول البديل المؤلم الآخر وهو الخروج من منظومة السوق الأوروبية تماما بما في ذلك من مخاطر الدخول في دائرة المجهول.

وآثار القرار اليوناني ستكون هائلة في الحالتين؛ لأن التداعيات ستصيب اقتصاديات إسبانيا ثم إيطاليا، فالبرتغال، فآيرلندا، ففرنسا تباعا، وستدخل هذه الدول في نفس السيناريوهات المؤلمة والصعبة، وسيكون الثمن الاقتصادي باهظا جدا مع عدم إغفال التكاليف الاجتماعية ولا السياسية أيضا، أو الاستهانة بهما.

وتبقى ألمانيا هي طوق النجاة الاقتصادي لهذه الدول، ولكنها وهي صاحبة الاقتصاد الأوروبي الأقوى، وأحد أهم الاقتصاديات العالمية، تبقى حذرة جدا من الإفراط في تبذير الدعم المالي لكل هذه الدول لإنقاذ اليورو والسوق الأوروبية، رغم أنها أكثر الدول إيمانا واستفادة وقناعة ودعما لذلك، ولكنها تتعرض لضغوط غير قليلة في الداخل لتوجيه هذه الأموال المخصصة لإعانة الدول المتضررة اقتصاديا في أوروبا إلى مشاريع وفرص استثمارية داخل ألمانيا نفسها لتحسين الإنتاجية والتنافسية وزيادة فرص توظيف للشباب.

الألمان أصحاب السمعة الباهرة في الإنتاجية والفعالية، لديهم قناعة كبيرة بأن المشكلة الاقتصادية في أوروبا تتخطى مسألة ديون وقروض وسداد التزامات، وإنما المسألة لها علاقة بثقافة شعوب وتعود على نمط معين للحياة لم يعد ملائما لظروف العصر الحالية أبدا. فاليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال شعوب البحر المتوسط المعروفة بساعات عمل محدودة وفترات راحة طويلة بعد الغداء، وكل ذلك يقلل من الإنتاجية المطلوبة في نهاية المطاف، وبالتالي يعتقد الألمان أنه دون تغيير في ثقافة العمل وأسلوبه في هذه الدول، فإن أي مساعدة ستكون مساعدة مالية مؤقتة وستتكرر المشكلة مجددا؛ لأن لب المشكلة لم يتعرض للحل الجذري وبقيت المسألة كما هي.

والمشكلة اليونانية التي «شلت» أوروبا وصلت بأمواجها للساحل الأميركي الذي تتعرض الشركات والأسواق فيه إلى حالة من الجمود والبطء في النمو الذي كان قد بدأ، فأهم المستثمرين في السوق الأوروبية شركات أوروبية عملاقة وخطط توسعها حتما تأثرت نتاج الأخبار السلبية والمقلقة الآتية من قارتهم العجوز. وللآن لم تستطع أوروبا أن تغري المارد الصيني والهندي والعربي بالقدر الكافي للدخول في صفقات كبرى تتناسب مع «الفرص» التاريخية الموجودة لديها نتاج الأزمة الخانقة. ولا يمكن إغفال الشهية المنفتحة جدا لدى الروس أصحاب الفائض المالي نتاج مبيعات النفط والغاز، والراغبين في استغلال الظروف الاقتصادية الصعبة لأميركا وعدم قدرة الأميركان في الاستثمار والتوسع المالي ورغبة الروس للعودة بقوة إلى جيرانهم الأوروبيين الذين سرقوا منهم حين سقط جدار برلين ومعه سقط الاتحاد السوفياتي.

التصويت اليوناني القادم هو أكثر من شأن محلي بحت يهم دولة الإغريق التي جار عليها الزمن وأصابها البؤس والعوز، إنه تصويت على «شكل» الاتحاد الأوروبي ومستقبل القارة نفسها والتي لديها مصالح وشركات واستثمارات وعملات تؤثر بشكل واضح على الاقتصاد والسياسات في العالم بأسره، ولعل أكبر المراقبين لنتائج الانتخابات اليونانية نفسها هو باراك أوباما لأن توسع تبعات التصويت اليوناني بشكل سلبي وسريع في القارة الأوروبية قد يكون هو الضربة الفنية القاضية لحظوظ أوباما كرئيس منتخب للمرة الثانية، فلم يعد على موعد الانتخابات الأميركية سوى فترة وجيزة جدا. التراجيديا اليونانية سيكون لها شكل درامي عالمي هذه المرة!

[email protected]