رجل الأمان لا الأمن

TT

عندما اغتيل الملك فيصل بن عبد العزيز شتاء 1975، كنت حديث الانتقال إلى «الأسبوع العربي». أذهلنا النبأ كما أذهل العالم. كان عدد المجلة على وشك الصدور في موعده الأسبوعي، لكننا أرسلنا مصورا إلى الرياض ليعود إلينا بأي شيء ملائم للحدث، عاد في اليوم التالي ومعه مجموعة صور «عامة» للجنازة، فقد حال الازدحام بينه وبين التقاط الصور عن قرب.

عرضت الصور الملتقطة على عجل، فوجدت بينها صورة لسعوديين عاديين يهرعون إلى الوداع بخطوات واسعة. بدت الصورة مثل لوحة زيتية أكثر منها صورة فوتوغرافية، وضعنا عنوانا لها: «الاستمرارية». يخطر لي العنوان والصورة كلما شهدت المملكة حدثا من أحداث القدر، يبدو الغياب محزنا مهما كان قدريا، وتبدو الاستمرارية مطمئنة مهما كان الزمن صعبا، وهو غياب غير عادي، في كل الأحوال، فالأمير نايف بن عبد العزيز كان رجل الأمان وليس الأمن، وكان، كما شدد دائما، رجل التطوير لا التغيير.

التطوير واجب، لكن لا مجال للمغامرة باستقرار الناس، وللداخلية مهمة واحدة، حماية هذا الاستقرار. في عهده واجهت السعودية والأمة أصعب الأزمات، وكان الأمير نايف في منتهى الصلابة وفي أقصى السماح، عاقب حيث لم يعد ينفع سوى العقاب، وأثاب بلا حساب، عاملا أبدا بالقول الكريم: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى».

رسمت الناس له صورة المتشدد، فيما عرف جميع عارفيه أنه رجل رؤيا وشرع. كان يقول باعتزاز: إن ما من متهم إلا وأحيل على القضاء، وما من بريء ظلم، وما من تائب إلا كوفئ واحتضن.

كان رجل دولة، قبل أي شيء، بمعنى سعة الرؤية، وسعة الأفق، وسعة الصدر، لم يكن الوضع الداخلي معزولا عنده عن ارتباط السعودية بواقعها الخارجي في العالم، نظر إلى علاقاتها بوعي وواقعية، بصرف النظر عن مشاعره ونظرته، ولم تعنه كثيرا صورة التشدد بقدر ما كانت تعنيه صورة التزام بالمبادئ، وربط الأمن بالعدالة، وخلف ذلك كان يخفي بتواضع جم شخصية القارئ والمثقف والمتابع لأحداث العالم.

توقف طويلا، وفي عمق، أمام ملفات عربية كثيرة، وكان يمتعض من مشاهد الظلم، مكررا باستمرار: «بأي حق من الله»، يفعلون هذا أو ذاك، وعندما كانت تشتد الأزمات العربية كان يتمنى للزعماء «الحكمة لا الحدة»، وفي مؤتمرات وزراء الداخلية العرب كان دائما صوت «التدقيق لا صوت التحقيق»، معلنا أن الأمن لا يكون بالضيق بل بالسعة.

سوف تفتقده المملكة ركنا كبيرا ورجلا كبيرا، وسوف يتذكر العرب فيه ما معنى أن يكون الأمن في يد الأمراء، خصوصا في هذه المرحلة الشاقة والدامية، «بأي حق من الله» كان يردد دوما الأمير نايف.