العصر الذهبي للتزوير والمزورين

TT

شكا لي أحد الزملاء بأنني لم أعد أكتب عن العراق الحاضر كثيرا. قلت له بل ولم أعد أقرأ عن العراق. ولكنني كاتب فكاهة وهزل. واسترعاني بهذه الصفة تقرير عامر بالفكاهة والهزل من مراسل صحافي في بغداد قرأته قبل مدة، قال إن تزوير الوثائق أصبح مهنة ناجحة ومتفوقة. وتجد على أرصفة الشوارع المزورين المحترفين يجلسون على قارعة الطريق مثلما كان يفعل العرضحالجية في أيام الخير. لقد اختفى العرضحالجية الآن، لا لأنه لا يوجد أميون اليوم وإنما لأنه لم يعد هناك من ينظر في العرائض ويلبي طلباتها. تضمن التقرير صورة لشرطي يفتش أحد المارة. شيء مألوف في الشرق الأوسط. غير المألوف في الصورة والطريف فيها أن الشرطي كان ملثما ولا يظهر من وجهه غير عينيه، في حين وقف عابر السبيل أمامه كاشف الوجه. لقد أصبح الشرطي يخاف من المارة بدلا من أن يخاف المارة من الشرطي كما هو الأمر في عالمنا العربي عفا الله عنه. ذكر المراسل أن رجلا طلب من المزورجي أن يزور له أربع هويات، واحدة كشيعي وأخرى كسني وثالثة كمسلم ورابعة كمسيحي. وفي أثناء ذلك جاء مراجع آخر يريد بطاقة تمكنه من دخول كردستان ككردي أبا عن جد، ففي كردستان يستطيع المواطن أن يأمن على حاله وماله الآن. وفي الباب الشرقي وقف أحد الباعة يبيع هويات تثبت أنك واحد من الشرطة. وإلى جانبه وقف بائع آخر يبيعك كامل بزة الشرطي من القبعة إلى الحذاء وبكل الشارات والأوسمة المناسبة.

شعرت وأنا أقرأ ذلك بأنني كنت أقرأ نصا من كوميديات شكسبير وسواه من كتاب العهود الماضية. فقد كان تغيير هويات شخوص المسرحية من البدع والوسائل الفنية لإضحاك المشاهدين وإمتاعهم، الفتى يصبح فتاة، والفتاة تصبح عجوزا، والعروس تتحول إلى خادمة، والخادمة إلى عروس، وهكذا. ولكن المخرجين كانوا يفعلون ذلك بتغيير الملابس والباروكات. في العراق يفعلون ذلك بتغيير بطاقة الهوية فيصبح المسلم نصرانيا والسني شيعيا ويتزوج شيعية ثم يكتشف أنها سنية، وتعرس المسلمة على حنفي مسلم وتفرح بجواز سفره الأميركي ثم تكتشف في الفراش أنه نصراني غير مطهر وجواز سفره مزور. دنيا العجائب وهات الممثل الكوميدي جعفر اغا لقلق زادة رحمه الله ليكتب لنا ما شاء من كوميديات ومشاهد مضحكة. ولكن أيام جعفر لقلق زادة قد مرت وفاتت وحلت محلها مسرحيات وأفلام الألم والموت والخطف. وفي أثناء ذلك راح الأطباء والعلماء والأساتذة يتوسلون بالمزورجية أن يزوروا لهم هوياتهم ويزيلوا منها هذه المؤهلات المهنية العالية ويكتبوا بدلا منها: المهنة نزاح مراحيض أو كناس شوارع أو أي شيء يدل على الجهل والتخلف؛ فلا يأمن على نفسه في هذه السنوات غير الجهلاء والمتخلفين، بل وقل ولا يحظى بالمجد والثروة والمناصب سواهم.

هنا أيضا يجدر بهم أن يتعلموا شيئا من شكسبير، ففي مسرحية «العاصفة» ينقلب أحد الأشخاص إلى حمار، بفعل إكسير سحري، وتقع بحبه بطلة المسرحية كحمار. تتوله به وتعجب بحكمته وبعقله ومعرفته وحسن إدارته لدولة الحمير. على الأطباء والعلماء والأساتذة العراقيين أن يفتشوا الآن عن ذلك الإكسير الذي يظهر أن أكثرية الناخبين قد سبقوهم في الاهتداء إليه وتناوله.