التحدي السعودي

TT

صعب على أي مؤسسة سياسية في العالم تحمل صدمات كبيرة متتالية، مثل وفاة ولي العهد السعودي الأسبق الأمير سلطان بن عبد العزيز قبل نحو سبعة أشهر، والآن صدم الجميع بوفاة ولي العهد الأمير نايف بن عبد العزيز. راح ركنان من أركان الدولة، لكن الحكم في السعودية واقف بقوة، فهو مؤسسة وليس فردا، ودولة مجربة وقادرة - منذ قيامها الثالث، منذ أكثر من ثمانين عاما - على الاستمرار ضمن إطار عقد اجتماعي يؤمن لها تجاوز المحن المختلفة، بما يؤمن الاستقرار والعلاقة المميزة مع مجتمعها.

الأمير نايف كان مسؤولا عن ركن مهم، كان وزيرا للداخلية ضمن مهام أخرى كبيرة. كان مسؤولا عن إدارة الأزمات في أكثر الفترات التاريخية خطورة واجهت فيها المملكة محنا خطيرة. ولم يكن ينتصر في معاركه فقط بل يجيد الانتصار في كل جوانب المعركة. ولعل أشهرها وآخرها كانت حروب «القاعدة» التي عمت ضرباتها تقريبا كل أنحاء البلاد؛ الرياض ومكة وجدة والخبر والقصيم وينبع، وغيرها. جزم البعض بأن البلاد تنحدر سريعا، فأغلقت فيها سفارات، ورحلت جاليات، وأوقفت شركات طيران رحلاتها. واختتمت صحف دولية تعليقاتها بأن السعودية لن تنجو ولو نجت من حرب «القاعدة» فلن تخرج سليمة. ومع أن «القاعدة» هاجمت مكتبه في الوزارة، وحاولت قتل ابنه الأمير محمد في منزله، وأصابت بعض قياداته الأمنية، ومع هذا فشلت.

الأمير نايف أدار المعركة على جبهات متعددة، الأمنية كانت واحدة منها، والسياسية والاجتماعية كانتا بينها أيضا. وكان مشروعه محاصرة الإرهاب دينيا ووطنيا وأخلاقيا، فكسب المواطن إلى صف الدولة، ولم يقض فقط على الخلايا النائمة والنشطة للتنظيم العالمي الإرهابي. نجح في ما فشل فيه آخرون. صارت حرب المواطن ضد الفكر والتنظيم والأفراد، فحاصر قيادات «القاعدة» وأفرادها بعد أن عجزت عن استمالة المواطن العادي بشعارات ومزاعم وفتاوى ودعاية ضخمة. كان حريصا على أن يعرف الجميع أنهم يدافعون عن بلدهم لا عن نظام سياسي. وقد انتبه مبكرا إلى سعي الإرهابيين لتجنيد أفراد مختلفين من كل قبائل المملكة ومناطقها لضرب النسيج الاجتماعي ومن خلاله محاصرة الدولة، وبدل ذلك انقلبت اللعبة، حيث قامت هذه الفئات المستهدفة ضد التنظيم حتى فر من نجا منهم من أفراده وقادته إلى جبال اليمن وأفغانستان وإيران.

ولا يمكن حصر الراحل في ملف الإرهاب الذي مثل جزءا من إنجازاته، وجزءا من تاريخ عمله الطويل. أعتقد أن الكثير قيل عن الأمير نايف لكن القليل الحقيقي عرف عنه بطبيعة عمله وندرة أحاديثه. بحكم عملي الصحافي عرفته من أكثر المسؤولين صراحة ووضوحا لإطلاع الجالس أمامه وليس بغية الحديث للإعلام. لم أسأله عن قضية إلا قدم لي كل معلوماتها، ليس بالضرورة بهدف نشرها، بل كان هذا هو أسلوبه في المكاشفة.

في الثمانينات، زرته بعد اشتداد المواجهات مع الإيرانيين الذين أرسلهم النظام لإرباك السعودية في الحج، ضمن معركة سياسية وأمنية كبيرة. اخترق الإيرانيون بطائراتهم العسكرية المجال الجوي فوق المياه السعودية، وأرسلوا آلافا من الحجاج من حرسهم الثوري مدربين على القتال، وشنوا حملة دعائية ضد المملكة، وقاموا بقتل جنود في ساحة الحرم الخارجية، خلالها سألته عن خبر من وكالة الأنباء السعودية ورد فيه سطر واحد يقول إن بعض الإيرانيين هجموا على مقبرة البقيع في المدينة المنورة التي دفن فيها أكابر صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم. قلت له يمكن أن ذلك جزء من التعبد وليس بالضرورة فوضى مقصودة.

لم يقص علي ما حدث بل طلب صور الحادثة، وعرض علي عشرات الصور منها، وفعلا كانت مناظر موجعة وبعضها مخجلة، وقال إن قوات الأمن حرصت على إنهائها من دون وقوع فتنة بين المتعبدين والزائرين من الطائفتين. قال إن هؤلاء يريدون معركة على أرض المدينة المنورة، وقبلها افتعلوا مواجهات أمام الحرم المكي الشريف، وأنا لست قلقا من ردعهم لكن أيضا لا أريد أن تمضي الأمور إلى أبعد من ذلك، وهو ما يريده النظام الإيراني بإحداث فتنة كبرى جديدة على أرض السعودية. ولست هنا بصدد الحديث عن طبيعة التحديات التي استمرت منذ عام 1979 وحتى هذا اليوم، بل الحديث عن طبيعة الحكم؛ ناعم وحازم وقادر على تحمل الصدمات ومداواة الجروح والصعود السريع. رغم أنه يستطيع أن ينجح باستخدام القوة لكنه دائما يفضل أن يدير قضاياه بالحكمة والصبر وحساب الأمور ووضعها في نصابها. الذي ميز ويميز دائما الحكم السعودي هو قادته، في حكمتهم وأسلوب إدارتهم، ومن تجربتنا نعرف أن العائلة قادرة على الاستمرار والتأقلم، رغم فداحة المصاب بخسارة رجل - رحمه الله - كان يملأ مكانا كبيرا في حياة السعوديين.

[email protected]