الحوار بين الأديان والثقافات

TT

في هذا المقال، أود أولا التركيز على فكرة وجود الكثير من المفردات اللغوية المستخدمة في الحديث عن الأديان والثقافات، ومن الواضح أن كل مفردة لها معنى ومدلول خاص في هذا الصدد. دعوني أروي لكم قصة رائعة. حضرت مؤتمرا في فيينا في وقت سابق من هذا الأسبوع؛ في ظهيرة الخميس، حينما انتهت المحاضرة التي التقيت فيها مع رجال دين وصحافيين، ذهبت إلى كاتدرائية سانت ستيفن مع الدكتور خالد عكاشة. وفي ظهيرة الأربعاء، ذهبت إلى هناك مجددا، لكن في هذه المرة، كنت وحدي. كنت أتطلع إلى الكاتدرائية من زوايا ومناظير مختلفة، وأخذت أتأمل مدى تناغم أحجار هذا المبنى معا!

استغرق إنشاء هذا المبنى الأثري وتنسيق هذا التناغم الرائع بين الأحجار مائة عام، يعتبر هذا هو التقليد التاريخي لإنشاء كاتدرائية! إنه ليس مثل أطول برج في العالم والذي قرر الصينيون إنشاءه في ثلاثة أشهر!

كمثال ثان، انظر إلى الأفق قبل شروق الشمس، انتظر وكن صبورا إلى أن تشرق الشمس. في تلك اللحظة، يمكنك أن تبصر تناغما رائعا في الألوان! في الخريف، تشاهد تناغم ألوان أوراق الشجر، خاصة في الغابات البكر.

مثال ثالث: استمع إلى السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، أو نابوكو لفيردي، وسوف تستشعر التناغم الرائع للأصوات والأنغام والألحان. لقد اشتق مصطلح «تناغم» (Harmony) من كلمة Harmonia اليونانية، والتي تعني «اتفاقا أو تناغما أو انسجاما» من الفعل (harmozo) بمعنى «ضم أو جمع». عادة ما استخدم هذا المصطلح في مجال الموسيقى بأكمله، فيما كانت تستخدم كلمة «موسيقى» في الإشارة إلى الفنون بشكل عام.

تقول ماريا ريلكه في البيت الأول من قصيدتها الشهيرة التأملية «الحلم»:

«قلبي مثل الكنيسة المنسية».

عندما لا نشعر بلهيب حب مشتعل في قلوبنا ونتصوره مثل كنيسة أو كاتدرائية منسية، يعني هذا أننا نبحث عن التناغم. إن الحب هو الذي يحقق التناغم في قلوبنا وعقولنا. حينما كنت أتحدث مع أنجيفيش – رئيس الحركة الهندوسية الإصلاحية «آرياساماي» - والقائد الهندوسي الروحاني العظيم، استشعرت تناغما في نبرة صوته وعينيه وكلماته وعالمه النابض بالحياة. إنه الحوار الحقيقي بين الأديان والمعتقدات المختلفة.

ثمة نوعان من التناغم: أحدهما داخلنا، والآخر خارجنا. وهذان الجانبان يتداخلان معا. حينما نستشعر في قلوبنا تناغما ونعثر عليه، حينها يمكننا اكتشاف التناغم الحقيقي خارجنا، مثل تناغم الأحجار في الكاتدرائية وتناغم الأصوات في السيمفونية وتناغم الألوان في كل زهور دوار الشمس في لوحات فينسنت فان غوخ، والأهم من كل ذلك تناغم المفردات في كتابنا المعظم، القرآن الكريم. بعبارة أخرى، للتناغم جوهر وشكل. الآن، ثمة تساؤل غاية في الأهمية يطرح نفسه، هل ثمة أي تناغم بين الأديان؟ يقول الله في كتابه العزيز:

«لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» (سورة البقرة - الآية 285).

«وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» (سورة النساء - الآية 152) .

يعني التفريق التنافر وعدم التناغم. لماذا يكون هناك تناغم في الدائرة؟ لأن هناك تناغما بين جميع أنصاف الأقطار والمحيطات والأقطار والمحور. الجميع يصبو إلى التناغم. يقول الله في كتابه العزيز:

«أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

الاقتراب من الله يعني التناغم، بينما الابتعاد عنه يعني التنافر. ثمة استعارة فريدة عن مفهومي الوحدة والتناغم في القرآن، وهي استعارة النور. سنكون في حالة من الدهشة الشديدة، لأننا في جميع الحالات نرى هذه المفردة في صيغة المفرد في القرآن، لدينا دائما كلمة «نور»، وليس «أنوار». ومن المدهش أن القرآن لا يشتمل على كلمة «الظلمات» في صيغة المفرد على الإطلاق، إنها مذكورة 23 مرة ودائما في صيغة الجمع! تشير كلمة «نور» إلى الوحدة والتناغم، فيما تشير كلمة «ظلمات» إلى الفرقة والتنافر.

من الواضح جليا أن جوهر الدين هو جوهر التناغم. الله هو محور التناغم بين جميع الرسل والأديان، والنور هو رمز هذا التناغم. يمكن أن يلعب مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز للحوار بين أتباع الديانات والثقافات دورا محوريا في هذا المجال. كانت هناك مناقشات مهمة حول الرؤى والأهداف، في ندوة علمية استمرت لمدة يومين في فيينا. يبدو لي أننا إذا ما تمكنا من التركيز على «الجذور» ولم تلهنا أوراق وفروع الأشجار، أعتقد أنه سيتسنى لنا أن نجد رؤية مشتركة بين جميع الأديان.

حينما نصر على استخدام مصطلح «بين»، يعني هذا أننا نحاول إيجاد أساس مشترك. ويعتبر التركيز على الوحدة والتناغم هو الرسالة الحقيقية للإسلام، حيث يقول الله في كتابه الكريم:

«تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» (آل عمران - الآية 64).

يشير الحوار بين الأديان إلى التفاعل التعاوني والبناء والإيجابي بين الناس على اختلاف أديانهم أو معتقداتهم الروحية أو الإنسانية، على المستويين الفردي والمؤسسي. إنه يختلف عن التوفيق بين المعتقدات أو الدين البديل، في أن الحوار عادة ما تضمن تعزيز الفهم بين الأديان المختلفة لزيادة قبول الآخرين، لا تشكيل معتقدات جديدة.

بمختلف أنحاء العالم، هناك مبادرات محلية وإقليمية ووطنية ودولية للحوار بين الأديان؛ كثير منها متصل بشكل رسمي أو غير رسمي وتشكل شبكات أو اتحادات أضخم.

صاغ المقولة التي كثيرا ما يتم الاستشهاد بها «لن يتحقق أي سلام بين الدول من دون سلام بين الأديان. ولن يكون هناك أي سلام يبن الأديان من دون حوار بينها» هانس كونغ – أستاذ علم اللاهوت ورئيس مؤسسة «الأخلاق العالمية».

من ثم، فبشكل عام، ما أرغب في قوله هو أن المشاركة في حوار أشبه بالقيام برحلة طويلة، ومشابهة جدا لبناء كاتدرائية. إن عملية إنشاء كاتدرائية ساحرة مثل كاتدرائية سانت ستيفن في فيينا استغرقت مائة عام على وجه التحديد. يتطلب بناء جسر بين الأديان فترة طويلة، ومركز الحوار بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة يتبع المسار الصحيح في هذا الشأن. إننا سوف نستشعر التناغم في عقولنا وقلوبنا.