استراتيجية السعودية المستقبلية تجاه النمو العالمي

TT

بادئ ذي بدء، أود أن أضم صوتي إلى صوت وزير الخارجية البريطاني ويليام هيغ في تقديم أسمى آيات التعازي من جانب حكومتنا لوفاة ولي العهد السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود، الذي قدم خدمات جليلة لبلاده على مدار سنوات طويلة بمنتهى التفاني والإباء، وسوف تظل إسهاماته في سبيل أمن ورخاء المملكة خالدة في ذاكرة بريطانيا والسعودية على حد سواء.

من المقرر أن يشهد الأسبوع الحالي حدثين بارزين هما: قمة مجموعة العشرين التي ستستضيفها مدينة لوس كابوس المكسيكية، والانتخابات التي ستجرى في اليونان. وتأتي مشاركة المملكة العربية السعودية في قمة مجموعة العشرين استمرارا منها في طرح نظرة تقدمية وموقف عملي تجاه النمو العالمي، حيث إنها تدرك مدى الحاجة إلى اتخاذ سلسلة معقدة من الإجراءات المترابطة من أجل إعادة الثقة، فمن دون هذه الثقة لن يكون هناك تعاف يذكر، وتعد أسعار النفط أحد العوامل الجوهرية في تحقيق ذلك.

وعقب الاجتماع الذي عقدته «منظمة الدول المصدرة للبترول» (أوبك) الأسبوع الماضي في فيينا، بدا واضحا أن هناك منهجين مختلفين تجاه أسعار النفط العالمية، حيث وجدت الدول المصدرة للنفط نفسها أمام اتجاهين في فيينا، الاتجاه الأول هو الاتجاه التقدمي والإيجابي الذي تتبناه المملكة العربية السعودية، ويتلخص بوضوح في أن ارتفاع أسعار النفط هو أحد الأسباب الرئيسية لما تعاني منه الاقتصادات الأميركية والأوروبية من ضعف، أما الاتجاه الآخر فهو يتكون من مجموعة من الإجراءات التكتيكية الأقل فعالية التي تتبناها كل من إيران وروسيا، وينحصر هذا الاتجاه في أن الاقتصاد العالمي اكتسب ما يكفي من المرونة والقدرة على استيعاب القفزات التي تشهدها أسعار النفط نتيجة ارتفاع الطلب من الاقتصادات الناشئة وانتهاج البنوك المركزية سياسات أكثر وعيا.

وعلينا جميعا أن نتبنى وأن نساند الفكر التقدمي والمنهج الإيجابي الذي تنادي به السعودية، وأن نرفض ذلك التكتيك الأقل فعالية الذي تنادي به إيران وروسيا. وهناك دوما بعد جيوسياسي في مثل هذه المناسبات، إلا أن العالم المتقدم والعالم النامي عليهما أن يشكرا السعودية على موقفها القوي في السعي إلى تثبيت أسعار النفط عند مستوى يعيد الثقة إلى أنشطة الاستثمار ويحفز النمو العالمي.

وتضع السعودية في اعتبارها حاجات المنتجين والمشترين على حد سواء، في حين يبدو أن الاتجاه الروسي-الإيراني الآخر لا يهتم سوى بالمنتجين فحسب، ولن تؤدي الإجراءات التي يناديان بها سوى إلى إطالة أمد الركود إلى جانب تقليل دخلهما من النفط في الوقت ذاته.

وقد طرح وزير النفط الهندي، جيبال ريدي، أثناء اجتماع منظمة «الأوبك» الأخير عددا من النقاط الهامة. وتعد الهند رابع أكبر دولة مستوردة للنفط في العالم، بعد الولايات المتحدة والصين واليابان، وكل هذه البلدان تعاني إما من نمو ضئيل أو من نمو بالسالب. ويعتبر الوصول إلى أسعار نفط معقولة أمرا أساسيا من أجل تحقيق تعاف عالمي قابل للاستدامة. وتشتري الهند كل إمداداتها الكبرى من دول أعضاء في منظمة «الأوبك» - وبالتحديد السعودية والعراق وإيران. وفي ظل ما يحدث على مستوى الاقتصاد الكلي العالمي، نادى ريدي بضرورة أن تتعاون البلدان المنتجة والمستهلكة للنفط من أجل بناء الثقة وتبادل البيانات السوقية بهدف إيجاد حالة من اليقين فيما يتعلق بالطلب داخل أسواق النفط الدولية. وهذا الرأي يعد نقطة محورية إلى حد بعيد في الاتجاه الذي تراه السعودية.

ولم يكن مستغربا أن يعترف ريدي بأن ارتفاع أسعار النفط يؤدي، في بلد مستورد للنفط مثل الهند، إلى تضخم محلي وزيادة في تكاليف مدخلات الإنتاج وتفاقم عجز الموازنة، مما يتسبب حتما في ارتفاع أسعار الفائدة وتباطؤ النمو والتعافي الاقتصاديين. وهذا ينطبق على كثير من البلدان الأوروبية بقدر ما ينطبق على الهند، فالبلدان الواقعة داخل منطقة اليورو لا تستطيع، بطبيعة الحال، أن تنتهج نفس السياسة المالية التي تنتهجها بريطانيا، نظرا لأنها لا تتحكم في أسعار الفائدة الخاصة بها، مما قد يحدث تأثيرا مدمرا على القدرات التنافسية. ولعلكم تذكرون أنني قلت قبل أسبوعين إن أزمة التنافسية في أوروبا ربما تكون الأكثر ضررا من بين الأزمات الثلاث المتوازية التي تعاني منها القارة العجوز، ويعد الوصول إلى أسعار نفط مستدامة وفي المتناول أداة أخرى لتحسين التنافسية.

ويبدو أن الاتجاه الإيراني-الروسي يظن أن الاقتصادات الناشئة سوف تكون قادرة على تعويض تراجع استهلاك النفط في العالم المتقدم، وهذا تفكير أحمق سيؤدي إلى دوامة من الهبوط السريع نحو القاع. أين في رأيهم ستبيع البلدان الناشئة إنتاجها؟ إن هذا الطرح يتضمن قدرا كبيرا جدا من التوقع غير المدروس، فمن الإفراط في التفاؤل أن يتصور أحد أن الاقتصادات الناشئة سوف تستوعب القدرة الشرائية لأميركا الشمالية وأوروبا، اللتين تعدان أكبر اقتصادات العالم بفارق شاسع عن المناطق الأخرى، في المستقبل المنظور. ومن دون عودة التعافي والثقة إلى الاقتصادات المتقدمة، سيكون من المستبعد أن تتمكن الاقتصادات الناشئة من أن تصبح ناشئة، وقد تم إثبات هذا من خلال دراسة إحصائية قدمت أثناء اجتماع منظمة «الأوبك». وقد أكد ريدي: «لا يمكن أن تكون هناك علاقة سببية أكثر وضوحا من التأثير المثبط الذي يحدثه ارتفاع أسعار النفط على النمو الاقتصادي في البلدان المستوردة للنفط»، مضيفا أن الإبقاء على زيادة في أسعار النفط الخام قدرها 10 دولارات أميركية للبرميل يؤدي إلى تراجع معدل النمو في البلدان النامية بمقدار 1.5%.

إذن، ما الذي تنادي به السعودية؟ أولا: فإن السعودية تمارس ضغطا سياسيا واقتصاديا على إيران وروسيا، حيث يعد الاستقرار في المنطقة أمرا حيويا من أجل استقرار إنتاج النفط وتثبيت أسعاره عند مستويات معقولة. ثانيا: فإن السعودية، وحدها تقريبا داخل منظمة «الأوبك»، تذكر العالم بأنها تدرك أهمية استقرار أسعار النفط وتثبيتها عند مستويات معقولة تراعي مصالح جميع الدول، وأنها على استعداد للتحرك في هذا الاتجاه، كما تذكر السعودية بقية دول العالم بأنه يمكنها تغطية أي عجز في الإنتاج، ومن ثم إعادة بعض الثقة، مما قد يشجع على زيادة الاستثمارات في البلدان الأخرى، وهو أمر هام - والواقع أن السعودية يمكنها تثبيت أسعار النفط في الأسواق عن طريق تعديل حجم الإنتاج بما يعوض الانخفاضات التي حدثت في الإنتاج جراء العقوبات الدولية المفروضة على إيران. ثالثا: فإن السعودية على دراية باقتصاديات السوق المتعلقة بالتقنيات المختلفة في مجال الهيدروكربونات، حيث إن الأسعار إذا ارتفعت عن مستوى معين، يصبح إنتاج النفط البحري في الأعماق أكبر جذبا للغاية، مثلما هو الحال مع استخراج الزيت الحجري، وبالتالي ينخفض الاعتماد على منظمة «الأوبك» بدرجة كبيرة. رابعا: تقوم السعودية، باعتبارها شريكا يضطلع بمسؤولياته تجاه العالم، بتقديم طرحها العملي بخصوص إنتاج النفط وأسعاره من أجل تدعيم التعافي ومساعدة بقية دول العالم على الخروج من حالة الركود التي تمر بها حاليا، كما تعمل السعودية، من خلال تكوين علاقات صداقة مع كثير من الدول، على إعادة بث بعض الثقة التي تفتقر إليها الأسواق.

أما المناسبة الأخرى فهي الزيارة الثانية التي يقوم بها اليونانيون إلى صناديق الاقتراع، والتي يمكن اعتبارها استفتاء حقيقيا على استمرار عضوية اليونان لمنطقة اليورو. وحتى توقيت كتابة هذه المقالة، كانت الأحزاب اليونانية الكثيرة تضع اللمسات الأخيرة على حملاتها الانتخابية من أجل اجتذاب الناخبين قبل بدء عمليات التصويت، حيث أصبح مستقبل اليونان داخل منطقة اليورو يقع بأكمله في أيدي الشعب اليوناني. ولا تنصب المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها العالم على اليونان وحدها، ومن السذاجة أن يتصور أحد هذا، فأخطر ما في الأمر هو حالة الذعر التي ستحدث، مما جعل زعماء أوروبا يضعون خططا هذا الأسبوع من أجل الحفاظ على هدوء الأسواق في حال انتخبت اليونان حكومة ترفض حزمة التقشف التي تلتزم بها البلاد حاليا.

وفي بريطانيا، قال جورج أوزبورن، وزير المالية البريطاني، خلال كلمته السنوية التي ألقاها من منزله الريفي: «لسنا عاجزين في مواجهة عاصفة الديون التي تجتاح منطقة اليورو. يمكننا معا أن نستجمع قوى جديدة لحماية اقتصادنا من الأزمة التي تقف على أعتابنا». وفي غضون أسابيع، سوف يعلن أوزبورن عن خطتين جديدتين تم وضعهما على عجل لتعزيز الاقتصاد البريطاني، إلى جانب حزمة تنشيط حركة الإقراض التي تم الإعلان عنها ليلة الخميس الماضي بقيمة 140 مليار جنيه إسترليني.

وسوف يتم خلال الشهر القادم، أو نحوه، الإعلان عن إجراءات ترمي إلى تعزيز نشاط بناء المنازل ومشروعات البنية التحتية الكبرى، عن طريق ضمان توفير القروض، حيث سيبدأ «بنك أوف إنغلاند» خلال الأيام القليلة القادمة في ضخ ما يصل إلى 100 مليار جنيه إسترليني - أي 5 مليارات جنيه إسترليني على الأقل كل شهر - داخل الاقتصاد البريطاني في صورة قروض بفوائد بسيطة. تأتي هذه الخطوة عقب البدء في تطبيق برنامج التسهيل الكمي الذي سبق أن أطلقه البنك بقيمة 325 مليار جنيه إسترليني، كما تم وضع جدول زمني للمزادات التي ستتم في إطار «تسهيل المدد لاتفاقات إعادة الشراء المضمونة بأجل» (Extended Collateral Term Repo Facility) - الذي يذكرنا بـ«عمليات إعادة التمويل طويلة الأجل» (Longer - Term Refinancing Operations) التي أطلقها البنك المركزي الأوروبي. وبالإضافة إلى ذلك، سيقوم البنك، في إطار خطة جديدة «للتمويل من أجل الإقراض»، تصل قيمتها إلى 80 مليار جنيه إسترليني، بتقديم قروض بفوائد بسيطة إلى البنوك لعدة سنوات، بأسعار فائدة أقل من السوق، مقابل أن تقوم البنوك بإقراض هذه الأموال إلى الأسر والمشروعات الصغيرة والمتوسطة.

وقد شهدت أسهم البنوك انتعاشة إثر الإعلان عن تقديم قروض بفوائد أقل للشركات وأصحاب المنازل، حيث صعد سهما «رويال بنك أوف سكوتلاند» و«لويدز» بنسبة 8% تقريبا يوم الجمعة الماضي. وعودة إلى أفكار الوزير الهندي ريدي، فنحن نؤيد وجهة النظر السعودية، ونرى أن ارتفاع أسعار النفط وتقلبها بدرجة كبيرة سوف يقللان من فعالية الجهود التي يبذلها العالم من أجل تحقيق تعاف سريع في النمو العالمي. فتلك النظرة المستقبلية والاتجاه الإيجابي اللذان تنادي بهما السعودية هما المطلوبان بالضبط، ونحن نشكرهم على الوقوف أمام الإجراءات التكتيكية الأقل فعالية التي ينطوي عليها الموقف الإيراني-الروسي.

* أستاذ زائر في «كلية إدارة الأعمال» بجامعة «لندن متروبوليتان» رئيس مجلس إدارة شركة «ألترا كابيتال»