عروبة مسايرة لخصومها معادية لخليجها!

TT

6 يونيو (حزيران): أن تعقد مؤتمرا قوميا، لاستنهاض المشروع القومي في ذكرى هزيمته، تصرف غير لائق. لعلها المصادفة سهت بمخضرمي المؤتمر القومي العروبيين. فسايروا مؤانسيهم الإسلاميين المتسيسين الذين استضافوا مؤتمره في «الحمامات» التونسية، في ذكرى النكسة المشؤومة.

23 مؤتمرا قوميا في 23 سنة، لا هي استعادت النظام القومي. ولا هي أشعلت الحنين إلى تسييس العروبة. ولا هي وضعت قضية الوحدة، مرة أخرى، تحت وهج الإعلام والدعاية. حتى «المجلس الوطني السوري» قاطع المؤتمر. ربما محظور على غليون والسيدا (رئيسه الجديد) التلفظ بالعروبة أمام «أصدقاء سوريا» الجدد في الغرب الذين ساهموا، منذ الستينات، في تقويض المشروع القومي العربي، ودمغوه بالفاشية والديكتاتورية.

من يتذكر عروبة سوريا، إذن؟ لا أحد. ولا حتى «هيئة التنسيق» مع نظام بشار. فقد تربعت على مائدة المؤتمر القومي. وتبدي استعدادها للجلوس إلى مائدة النظام لمحاورة الجزار حول الإصلاح ومستقبل سوريا! واستطاعت استغفال عروبيي المؤتمر وإسلامييه. فانتزعت منهم «إدانة» للجامعة العربية، لأنها جمدت عضوية نظام «المستعربين» الذين قتلوا إلى الآن 15 ألف سوري، في المدن السورية الشهيدة.

لست هنا في معرض إحراج شعور المؤتمرين. فالعروبيون المخضرمون لم تصبهم نعمة النظام القومي في شبابهم، ولحقت بهم، في كهولتهم وشيخوختهم، نقمة النظام الجمهوري الوارث لسلفه القومي.

إنما أود أن أصارحهم بأن هناك أسبابا كثيرة، لعدم تمكنهم من إلهام الأجيال العربية الجديدة، بروح قومية، غير تلك التي ألهمت أجيال القرن العشرين، واستمرت إلى لحظة الانكسار القومي في منتصف الستينات.

في مقدمة الأسباب، هذه المسايرة العروبية المجاملة لتيارات الإسلام السياسي الإخواني والشيعي. فقد أدت إلى فرض نوع من «الأسلمة» السياسية للمشروع القومي، وفق إسلامية الداعية حسن البنا المحافظة التي لم تتمكن، بعد أكثر من ثمانين عاما، من تكييف الإسلام السياسي مع الحداثة.

المسايرة العروبية للإسلام الإخواني تجلت في أخطاء الحركة الناصرية المتجددة في مصر. لم يكن حمدين صباحي (حامل تفويض من نحو خمسة ملايين ناخب مصري) بحاجة إلى الانضواء تحت جناح الإخوان، في مسيرتهم للاستيلاء على الدولة. مع الأسف، لم يلهم انفصاله المتأخر عن المشروع الإخواني عروبيي المؤتمر القومي، في الاحتفاظ باستقلاليتهم عن الإسلام الإخواني.

لست معاديا للحوار بين العروبيين والإسلاميين. لكن من خلال حوار علني كفصيلين مستقلين. لكل منهما عقيدته. وليس حوارا داخل مربع المؤتمر القومي. فهو نوع من التلفيق والمهادنة. والاستسلام لمنطلقات الدولة الدينية. ونقيض لمنطلقات «المشروع النهضوي العربي» الذي يتحدث عنه عروبيو المؤتمر.

«طظ في مصر». ليست هذه هفوة لسان عابرة على لسان مهدي عاكف المرشد الإخواني السابق. إنما هي صادرة عن اعتقاد إخواني برفض التراب الوطني، ككيان يؤطر الوطن. كم أتمنى أن يقرأ العروبيون وغير العروبيين بحثا مختصرا للباحث المصري حسام سويلم، عن ازدراء «الإخوان» للوطنية المصرية، وتحقيرهم للقومية العربية. لأن ولاء الإخوان هو للآيديولوجيا الدينية المتسيسة، وليس أبدا للوطن.

الباحث يستشهد بما ورد في كتاب (معالم في الطريق) لسيد قطب، وبفتوى خيرت الشاطر (الوصي على المرشح محمد مرسي منذ إجرائه عملية جراحية دقيقة في المخ) عن تكفير المجتمع «الجاهلي»، وجواز قتل المدنيين بحجة أسلمتهم. ثم فتوى «الجهادي» شكري مصطفى الخارج من رحم الإخوان. التي تدعو إلى عدم قتال اليهود دفاعا عن الوطن، والاكتفاء بالاختباء منهم!

لعل حركة حمدين صباحي التي جددت الأمل في عروبة ليبرالية متحررة من أخطاء التجربتين الناصرية والبعثية قادرة على تأسيس «مركز فكري» وعد به المؤتمر القومي (2001) ولم ينفذه. الهدف تقديم دراسات جادة ونزيهة عن العلاقة مع الإسلاميين. وعن التجربة القومية.

العروبيون المخضرمون والجدد مسؤولون أيضا عن هذا الإعراض عن نقد الذات، ومراجعة التجربة القومية. صدرت كتابات ناقدة بأقلام معادية للعروبة. لكن إلى الآن، لم تصدر كتابات علمية جادة بأقلام عروبية، عن أسباب اختصار التجربة البعثية في سوريا بنظام الطائفة العائلية، ولا عن أسباب نهاية التجربة البعثية العراقية بنظام العشيرة العاجزة عن تحقيق مصالحة مع الأطياف العرقية والطائفية. ثم انتهت بسلوك سياسة التحدي العشوائية التي ضحت بعروبة العراق، وسلمته إلى الاحتلال الأجنبي الذي سلمه بدوره، إلى الطيف الشيعي المعادي للعروبة.

لم يتمكن عروبيو المؤتمر القومي من إقناع المتأسلمين، بقراءة التاريخ. ما زال الجهاديون و«حزب التحرير». وربما الإخوان معهم. يصرون على استعادة الخلافة الإسلامية التي مكنت أقواما وأنظمة غير عربية من استعمار العرب نحو ألف سنة، حاولت خلالها طمس هويتهم. ثقافتهم. لغتهم، متسترة تحت مظلة دينية/ عرقية.

كعراب مؤسس للمؤتمر القومي في عام 1995، تكلم العروبي المخضرم خير الدين حسيب (86 سنة) مزهوا بالمؤتمر. كان الأحرى به أن يقدم عرضا للتجربة القومية الليبرالية الرائدة التي كان هو أحد رجالها في عراق عبد الرحمن عارف، لإطلاع الأجيال العربية على مسؤولية بعث صدام والبكر، في تقويض ليبرالية عربية، في مشروع عراق متصالح مع أعراقه. أديانه. مذاهبه. عراق مسالم لجيرانه عربا. وفرسا. وأتراكا.

سيسجل التاريخ للعراقي الليبرالي حسيب تأسيسه «مركز دراسات الوحدة» كمنارة قومية بيروتية. لكن المشكلة مع هذا الليبرالي العتيق أنه هو ومؤتمره ومركزه، يمارسون عروبة توصيفية لقضايا وهموم العرب والعروبة، من دون تحليل عميق ومباشر للأسباب والتفاصيل، بحيث غدا الفكر القومي مجرد ملامسة هينة. لينة لهذه الهموم، ولا فائدة منها في تبصير الأجيال الجديدة بمآسي التجربة القومية البعثية والناصرية. ربما لأن موقع حسيب البيروتي المكشوف، فرض عليه مداهنة النظامين الصدامي والعلوي، ومسايرة الإسلامين الإخواني والشيعي.

أخيرا، لا يجد العرب تفسيرا لهذا العداء العروبي للنظام الخليجي الموروث منذ العصر الناصري. بيان المؤتمر القومي حافل بإيماءات العداء المتجاهل، سواء رضينا أو أبينا، لانتقال مركز الثقل السياسي والمادي إلى الخليج، لانشغال مصر بانتفاضتها. ولانكشاف عورة النظام الطائفي السوري المتحالف مع إيران ضد العروبة الخليجية المهددة.

النظام الخليجي يعمل. من يعمل يخطئ ويصيب. إلى الآن، حافظ النظام الخليجي، بدولته المانحة بسخاء لمواطنيه، على استقراره. وأمنه. وضمن العمل والإقامة، لسبعة ملايين عربي يرسلون عشرات مليارات الدولارات الخليجية إلى مجتمعاتهم العربية الفقيرة والبائسة.

فهل من العروبة استعجال المؤتمر القومي لإرهاص انتفاضة خليجية غير واردة؟ وهل من العروبة تصور حوار قومي مع إيران حول سوريا، أو البحرين، فيما تسعى طهران إلى تحويل البحرين إلى لبنان آخر، يتحكم فيه سلاح الطائفة، بأمن واستقرار الطوائف؟!