السعودية: الحكم والحكمة

TT

على الطريقة السعودية «العملية» الخالية من التعقيد، حسم خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز الأمور، واختار وليا للعهد، ووزيرا للداخلية، في اليوم التالي لتشييع ولي العهد السابق وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز، رحمه الله.

رحل الرجل العظيم وركن الدولة الركين الأمير نايف قبل بضعة أيام، وسط مشاعر من الدهشة وصعقة الخبر، حيث ظهرت صور للراحل قبل يوم من وفاته وهو يتباسط بالحديث مع زواره في جنيف، ولكن نفذ القدر وحلت الساعة.

بعد ذلك - وفي مشاعر حزن وقلق أثناء قدوم جثمان الراحل الكبير نايف بن عبد العزيز من الخارج ليصلى عليه في جنازة، بسيطة ومهيبة - ترقب السعوديون بحماس من يحل مكان الراحل؟ لكن منظر الأمير سلمان، وزير الدفاع، وهو منشغل بجنازة شقيقه الأمير نايف، وتعابير الحزن النبيل، مع الحزم والصلابة المعهودة، كان يشي بأن هذا الرجل هو اختيار الملك الحكيم عبد الله بن عبد العزيز بلا ريب.

اليوم، وكعادته، سارع قائد الأمة والدولة، عبد الله بن عبد العزيز، إلى صيانة السفينة السعودية، ورتق الفتوق، ومواصلة السير والإبحار بهذه السفينة في خضم الأمواج والأعاصير التي تضرب المنطقة حولنا.

يلفت النظر سهولة وسرعة وسلاسة انتقال السلطة في السعودية، قياسا على ما يجري من حولنا، في كل الاتجاهات، حيث انتقال السلطة في كل مكان شمالا وجنوبا هو مشروع حرب وفتن ودماء، من سوريا إلى اليمن، وغموض الحال في مصر.

هي سهولة راجعة إلى خلو التقاليد السعودية الحاكمة من التعقيد، واحترام التراتب، والنظرة العملية للأمور.

منذ سنة ونصف السنة، أي موسم ما سمي بـ«الربيع العربي» ونحن نشهد جدلا عريضا أكثره صاخب بلا مضمون، حول التحولات السياسية والتغني بكل تحول كائنا ما كان، وقد يؤثر بعض هذا الحديث عن التغني المطلق بتغيير السلطة والحماسة الجماهيرية، بصرف النظر عن المصلحة العامة، على كثير من الناس، ومن ذلك توجيه النقد للنمط السعودي في أصول الحكم، حتى من قبل بعض الإسلاميين المسيسين الطارئين على حكاية الديمقراطية والتغني بها بشكل غنائي وإنشادي. وهو نقد وتقريع ليس لوجه الديمقراطية، بأساسها الفلسفي الصلب، بل لأجل فائدتها العملية السريعة لهذه التيارات.

هنا أحب أن أقف وقفة سريعة، بالذات مع «ديمقراطية» الإسلاميين الجدد، عند بعض المحطات الفقهية التاريخية السريعة.

لنقف فقط عند التأصيل الديني، والمرجعية التاريخية، التي ينادينا بها كثير من هؤلاء، وينعون بها على خصومهم دوما، إذا كانت مفيدة لهم.

تدوين دستور مكتوب ينص صراحة على انحصار الحكم في سلالة معينة، عمل به قبل نحو قرن ونصف القرن، والباحث الكويتي الدستوري أحمد الديين يخبرنا في كتابه «السلف والخلف في وراثة العروش» عن القانون الأساسي العثماني الصادر في 14 ديسمبر (كانون الأول) 1876 الذي ينص في مادته الثالثة على: «أن السلطنة السنية العثمانية الحائزة الخلافة الكبرى الإسلامية تكون لأكبر أولاد سلالة آل عثمان، بحسب الأصول القديمة».

ويتحدث عن أقدم وثيقة دستورية عربية تتناول مسألة توارث الحكم في التاريخ العربي الحديث، وهي قانون الدولة التونسية الصادر في 26 أبريل (نيسان) 1861، إبان حكم البايات الحسنيين، حيث نصت المادة على: «أكبر هذا البيت الحسني هو الذي يتقدم لولاية المملكة عند انقضاء سلفه على عادة آله المقررة المألوفة، ولا يتقدم صغير على كبير إلا بعذر يعجزه عن خدمة المملكة»، ثم يخبرنا الديين عن «أول» مملكة عربية تنص في دستورها على مبدأ التوارث، وهي المملكة العربية السورية، التي حكمها الملك فيصل بن الحسين الهاشمي. فقد نص دستورها على حصر الملك في الأكبر فالأكبر من أبناء فيصل الأول، متسلسلا على هذه القاعدة. وعلى المنوال ذاته نص دستور المملكة العربية الصادر عام 1925، التي حكمها أيضا فيصل بن الحسين بعد خروجه من سوريا.

وبالعودة إلى مسألة البيعة والتوريث، وأنا هنا أتحدث عن تاريخ إسلامي مديد، نعلم أن الفقهاء الأوائل تحدثوا عن مبدأ التوريث، حينما أصبح أمرا واقعا منذ أيام الأمويين، ومضى التاريخ كذلك. وقد دافع الماوردي في «الأحكام السلطانية» (توفي 450 هـ)، كما يذكر عدنان اسمندر في كتابه «النبوة والخلافة والإمامة»، عن فكرة ولاية العهد، مستدلا بتوجيه الرسول لقادة معركة مؤتة بالتعاقب على إمارة الجيش، إذا قتل أحد منهم، وقال: «وإذا فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك في الإمارة، جاز مثله في الخلافة». وقال: «وقد عمل بذلك في الدولتين (يقصد الأموية والعباسية) من لم ينكر عليه أحد من علماء عصره. أي أن ولاية العهد تعطى لأكثر من واحد». (الأحكام السلطانية ص 40).

المراد قوله هنا أن المهم في هذا كله، ليس شكل الحكم، بل أثره وفائدته، ليست القضية أن يكون الحكم جمهوريا أو ملكيا، بل المهم هو فائدته وأثره على الأرض، على الناس والسكان، فائدته في توفير الأمن والعيش الكريم، واحترام الكرامات.

كما أن المهم هو أن ثمة تطورا، يتسارع ويتباطأ، ليس مهما هذا، لكن المهم هو أنه موجود. بينما دول أخرى في العالم العربي تفتك بها الحروب والمجازر والتقسيم، وكلنا نرى ونسمع ما يشيب له الولدان.

الدولة السعودية في كل أطوارها الثلاثة، كانت تستفيد من كل مرحلة، تثمر صوابها، وتراكمه، وتتجنب العثرات وتستفيد منها، وقد شرح الأديب اللبناني أمين الريحاني، وكان صديقا للملك المؤسس عبد العزيز، ذلك فيما كتبه عن تاريخ السعودية، حيث نقل أحاديث غاية في البصيرة التاريخية للملك عبد العزيز حول دروس التاريخ المحلي.

اختيار الأمير سلمان وليا للعهد هو استمرار لهذه البصيرة التي تقع في القلب من الروح السعودية، هذه الروح التي تتمثل في الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي اختزن كل قصة السعودية وعطر تاريخها في أردانه.

من حسنات الزمان أن يكون قائد السعودية في هذه المرحلة هو عبد الله بن عبد العزيز، خصوصا في اللحظة الصعبة والمحيرة من عمر المنطقة.

لكن كانت التحديات دوما هي قدر هذه الدولة الأساس في منطقة الشرق الأوسط. وكان الملك عبد الله بن عبد العزيز على الموعد مع التاريخ، كان رجل المرحلة الصعبة.

وباستمرار، لم يكن التاريخ ناعما أو رحيما، ولم تكن التحديات سهلة أو يسيرة، ولم تكن خالية من العرق والدموع والدماء، ولكنها كانت كلها تؤكد مرارا أن مشروع الدولة والاستقرار والاستمرار، السعودي، هو الذي ينتصر في النهاية، وينتصر بقوة الدعم المعنوي العميق، وليس بمجرد أسباب القوة المادية عسكرية كانت أم اقتصادية.

الملك عبد الله بن عبد العزيز، كان وما زال رجل المرحلة الكبير، منذ جنون «القاعدة» إلى زمن الاضطرابات الكبرى في الموسم الحالي. رجل المرحلة في تحديات الداخل والخارج.

الآن، في السفينة السعودية بحار ماهر، وقائد بالسليقة، هو سلمان بن عبد العزيز، انضم عضدا وعونا إلى زعيم البلاد الملك عبد الله بن عبد العزيز.

الحكم في السعودية فن من نوع خاص، حير الكثير في الخارج، وأفرح الكثير في الداخل.

رحم الله نايف، وأعان سلمان.

[email protected]