رحيل الأمير نايف.. الشرعية هي الذكرى الباقية

TT

في عالم السياسة عادة ما تأخذ الأحداث طابع الإيقاع السريع، قد يتوقف الزمن السياسي لمدة، ولكنه حين يتحرك لا يترك للمرء فرصة لالتقاط الأنفاس.

يعمر نظام ما لعقود حتى يظن المرء أن التاريخ ثابت لا يتحرك، ثم تحدث ثورة أو انتفاضة غير متوقعة، فينهار النظام كورق اللعب، ثم تغرق تلك المجتمعات في المجهول. في بعض التجارب تنظم انتخابات مستعجلة، وتصعد إلى السطح كل التنظيمات السرية المتطرفة والعنيفة بمطالبها المشروعة وغير المشروعة، ونتيجة لذلك تظل الشرعية تائهة لعقود في أفضل الأحوال، ولكن في تجارب أخرى لا تأتي الشرعية أبدا.

إن من المحزن في تجربة بعض الجمهوريات العربية أن النظام كله مرتبط بفرد وحيد، برحيله تنقلب الدولة رأسا على عقب، فتنهار الحكومة، وينقسم الجيش، بل وفي بعض الأحيان يتفسخ النسيج الاجتماعي، وتدخل الدولة في حرب أهلية. وما شاهدناه خلال أحداث «الانتفاضات الشعبية» التي عمت بعض العواصم العربية يعكس الفرق بين الاستقرار والأمن القائم على قواعد راسخة من الشرعية والتوافق الاجتماعي، وبين الاستقرار المفروض بسلاح الاستبداد والتخويف.

ذهبت أنظمة كانت تدير مخططات العنف، وتدبر المؤامرات الدولية والإقليمية، ولم تنفعها أجهزتها المخابراتية من أن تشهد المصير المحتوم للظلم والتعنت، ولكن في المقابل ثبتت دول أخرى وأظهرت جاهزية كبيرة للتعاطي مع أخطر أزمة مرت بالمنطقة منذ حرب الخليج الثانية في 1992.

كانت هناك أسباب موضوعية لهذا الاستقرار - النسبي - في محيط مضطرب يعود بعضها إلى التنمية المدنية والاقتصادية، والرعاية الحكومية للحاجات الأساسية في مجتمعاتها، ولكن ما هو أهم من ذلك هو توفر ثقافة الاحترام الإنساني، والتكافل الاجتماعي بين الحكومة والمواطن، وتغليب مبدأ الإصلاح، والتشاور، واعتبار رفاهية المواطنين، وتطلعاتهم المستقبلية، أهم من أي فرد في الدولة.

المتأمل في رحيل الأمير نايف بن عبد العزيز - رحمه الله - يدرك ذلك جيدا، فهذا المسؤول السعودي الذي بذل أكثر من خمسة عقود في خدمة وطنه، وتوفير الأمن والاستقرار لمواطنيه، يرحل من دون أن يتأثر أي شيء في مؤسسات الدولة التي رعى نموها وتطويرها إلا مشاعر مواطنيه الذين أصابهم الحزن والأسى لوفاة رجل دولة بمكانة وتقدير الأمير نايف.

لقد حول الأمير نايف وزارة الداخلية السعودية خلال العقود الثلاثة الماضية إلى مؤسسة حديثة، وواجه خلال خدمته تحديات كبيرة منذ حادثة المتشددين الذين احتلوا الحرم المكي في 1979، وكذلك أزمة التخريب والتفجيرات التي قامت بها عناصر إيرانية متطرفة في الثمانينات، ولكن الإنجاز الأكبر الذي سيبقى له هو أنه استطاع تحويل السعودية من دولة متهمة بالتشدد الديني، وتورط بعض مواطنيها في حوادث إرهابية، إلى دولة رائدة في مكافحة الإرهاب، بل ولتحظى أثناء خدمته بثناء المؤسسات الدولية على دورها، ليس في مكافحة الإرهاب أمنيا فقط، بل والقدرة على بناء برامج توعوية وإرشادية لمكافحته.

يرحل زعماء وسياسيون ووزراء، ولكنْ قليل منهم من يغادر ويحمل معه تقدير ومحبة شعبه، بل وتركة مهيبة من الإنجاز الوطني لحماية أمن مواطنيه، وتوفير سبل الاستقرار والتطلع إلى مستقبل أفضل.

إن أهم درس يمكن استخلاصه من تجربة هذا السياسي السعودي أن الشرعية يتم تحقيقها من الداخل، أي بكسب ثقة المواطنين وبالعمل على راحتهم ومصلحتهم، لا باعتساف السلطة والتضييق على حقوقهم.

لعل أهم إنجاز حققه الأمير نايف هو بناء مؤسسات مؤثرة، وتقديم المواطن على كل شيء، وبذلك يكون قد أرسى وأعاد تدعيم واحد من أهم إنجازات المؤسس الملك عبد العزيز - رحمه الله - ألا وهو تدعيم الشرعية الداخلية القائمة على التوافق الاجتماعي والإجماع الوطني، لأنها هي الأثر الفاعل، والذكرى الباقية.