التسليم والتسلم: طاعة الإيمان وطاعة الوطن

TT

كان البعض يقول قبل سنين إن أهل جدة يشعرون بشيء من الغيرة من التقدم الذي جرى في الرياض. فقد حقق الأمير سلمان بن عبد العزيز طوال نصف قرن إنجازا غير متخيل؛ إذ توسعت المدينة من بلدة كبيرة إلى عاصمة حديثة من خمسة ملايين نسمة. ليت القائلين شاهدوا أمس أهل جدة يتدافعون للسلام على ولي العهد في قصر السلام.

عبثا حاولت القوى العسكرية التخفيف من حدة التدافع، حتى بالتوسل إلى الناس. ولكن هذه الألوف جاءت تبايع اختيار الملك عبد الله بن عبد العزيز لولي عهده. كأنما هذا المد الهائل من المشاعر العفوية المذهلة، مسارعة في مبايعة الخيار المتوقع. لا يمكن أن ترى مثل هذا الحشد الصادق، إلا هنا، حيث التسليم بالمشيئة الإلهية طاعة الإيمان، والتسلم في شؤون الدولة طاعة الوطن.

من إمارة الرياض إلى ولاية العهد، مسيرة من الشواهد الكبرى، ليس أبرزها ما حفلت به من عمران وإدارة بل ما لقيت من محبة الناس ومن احترامهم. مسيرة من المبادلة بين رجل يصل إلى مكتبه كأول العاملين وبين مواطنين شاهدوه دائما معهم، خصوصا في الأزمات الكبرى. فعندما كان عراق صدام يقصف الرياض بالصواريخ، ظل الأمير سلمان 44 يوما في مكتبه، خوف أن يشعر أحد في المدينة بالهلع.

مثل جميع أفراد القيادة لم تقتصر أعمال الأمير سلمان على مسؤوليات الموقع. طالما رأيناه في بريطانيا أو ألمانيا أو إسبانيا أو مصر أو فرنسا، حيث يعطى استقبال زعماء الدول. وطالما أقام مع القادة علاقات ومودات لعل أكثر من عبر عنها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الرسالة التي بعث بها إليه يوم أصبح رئيسا للجزائر. لا تصف الرسالة امتنان القائد الجزائري للأمير بقدر ما تصف نوعية العلاقات الشخصية والسياسية التي يقيمها أمير الرياض مع السياسيين العرب، وهم في أزماتهم وليس في ذرواتهم.

يحبه الكبار والصغار. جعل من إمارة الرياض باباً لا يغلق ولا يرد. لم تكتف الإمارة يوما بمسؤولياتها، بل كانت أيضا الوسيط بين المراجعين وبين أي هيئة أخرى في الدولة. من العناية الصحية إلى أي أمر آخر. سر الرجل أنه في العلاقة الدولية وفي العلاقة العربية وفي العلاقة الوطنية، جعل قاعدة واحدة للتعامل، قائمة على مبدأ الخلق والصدق. وعلى هذه القاعدة أيضا بنى الآخرون طريقتهم في التعامل معه. لم يراجعه أحد في أمر يعرف أن الأمير سلمان لا يمكن أن يراجع به.

في تدشين مبنى جريدة «الرياض» قبل سنوات ألقى ما اعتبر يومها بيانا سياسيا. قال لسامعيه، لا نقبل دروسا في العروبة فمهدها هنا. ولا نقبل دروسا في العلاقات الدولية فالقاعدة واحدة، وهي مصلحة الوطن. وأما في الداخل فدعا إلى إنشاء طبقة متوسطة لأنها عماد الدول.