العالم من حولنا!

TT

أريد هدنة أسبوعا من الحالة المصرية حتى أفهم ما يجري فيها. لقد ذكرت من قبل، وفي أكثر من مكان، ذلك المثال الخاص بالرجل الأعمى الذي يحاول أن يقيس أبعاد مكعب الثلج بينما يذوب بين أصابعه. الحالة مصرية هكذا تماما، فبينما تشرح آخر تطوراتها في برنامج تلفزيوني، تجد أن هذا الشرح لم يعد منطبقا على الأحوال بمجرد الخروج من الاستوديو لأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أصدر إعلانا من نوع ما، أو ألقت شخصية انتخابية بقنبلة سياسية من نوع آخر، أو قامت محكمة بإصدار حكم ينقض حكم محكمة أخرى، وهناك انتخابات، وانتخابات إعادة، وجولات دعائية، وأيام صمت انتخابي، وهناك آلة إعلامية جبارة تطحن كل شيء على مدى الأربع والعشرين ساعة، والتي لا يوجد غيرها في اليوم.

ولا شك أن القارئ قد تابع الأنباء من ساعة قرارات المحكمة الدستورية العليا وما قضت به من رفض قانون العزل السياسي وحتى حل مجلس الشعب، وما تلا هذا وذاك من صيحات أعقبها صمت، جرت بعده انتخابات، سوف نعلم نتيجتها رسميا قبل أن ينتهي الأسبوع. على أي الأحوال، لنأخذ أنفاسنا قليلا، ونستغل الفرصة للنظر في ما أهملناه طويلا، وهو النظر إلى العالم من حولنا وما يجري فيه من تطورات. وبصراحة فإننا كعرب ومصريين، ومع كل الاحترام لسنا مركز الكون، ولا نحن الذين نحدد مجرى التاريخ. لقد كانت هناك لحظة بدا فيها أننا سوف نساهم بقدر ما في مسيرة الدنيا نحو الحرية والديمقراطية، ولكن اللحظة أعقبتها لحظات أفرزت من جوف التاريخ والحاضر كل ما عرفه العالم عنا من صراع بين الدولة المدنية والدولة الدينية، والدولة في عمومها، والثورة في عمومها أيضا قد صارت حالة من الضجيج والضوضاء وليس مشروعا بأي معنى للتقدم.

انصرف العالم عن المنطقة وهز أكتافه على أي حال وعاد إلى قائمة أعماله التي لا يوجد فيها ما يسر أو يسعد. وبقدر غير قليل من التبسيط فإن الثابت أن العالم لم يخرج بعد من آثار الأزمة الاقتصادية التي بدأت رسميا في سبتمبر (أيلول) 2008. ربما نجحت الجهود الدولية في تحقيق قدر من الاستقرار، والتخلص من الانكماش الاقتصادي في عدد من مناطق العالم، ونجت دول من الأزمة كلها مثل ألمانيا والصين والهند، وحتى الولايات المتحدة كان فيها بعض مما يبشر، وبدأت تأخذ بيد الاقتصاد العالمي من جديد. ولكن التغير الإيجابي، والتفاؤل معه، لم يستمر لفترة طويلة، فسرعان ما ظهر أن دولا بلغ بها الفساد الاقتصادي مبلغه إلى الدرجة التي فاجأت بها العالم بتوجهها نحو الإفلاس. كانت اليونان في مقدمة هذه الدول، وبدت كحالة بائسة ويائسة ولكن سرعان ما ظهر أنها ليست وحدها في الساحة، وبتطبيق نفس المعايير فإن دولا أكبر واقتصادات أعظم كانت هي الأخرى على شفا الكارثة. كانت إسبانيا والبرتغال وإيطاليا تترنح، ولم تكن فرنسا ذاتها بعيدة تماما عن الصورة، ولو كان الأمر مسبحة لظهر أنها عندما تنكسر عند حبة من حباتها، فإنها لا تلبث أن تأخذ في الانفراط.

الأمر كله الذي بدا كما لو كان مشكلة عقارية، أو سوء إدارة للنظام الاقتصادي العالمي، سرعان ما ظهر أنه بالإضافة إلى ذلك متعدد الأبعاد، وعلى الأرجح أن أحدا لا يعلم ما هي المشكلة على وجه التحديد لأنها في النهاية وصلت إلى البلدان التي كان يظن في مناعتها، وهي الصين والهند وكلتاهما كانت آلة اقتصادية ضخمة تنمو لمعدلات متسارعة ومن ثم فإنها فرضت آمالا على أن الطلب العالمي على السلع والبضائع سوف يظل مستمرا ومن ثم يبعد خطر الكساد. ولكن الواقع أثبت أن الخطر مقيم وجاء في وقت تعيش فيه أكبر الاقتصادات العالمية في الولايات المتحدة في مناخ الانتخابات الرئاسية حيث لا يمكن اتخاذ قرارات جادة.

وعلى أي حال، فإن الساسة في أوروبا وهي الكتلة الاقتصادية الثانية في العالم لم تكن أسعد حالا، ليس فقط لأن لديها انتخابات بأنواع مختلفة، ولكن لأن ساستها لم يعودوا يعرفون ماذا يفعلون.

كان رد الفعل التلقائي الأوروبي هو ما ينصح به غالبية الاقتصاديين في أوقات الأزمة، وهو السعي نحو تقليل الإنفاق، وشد الأحزمة على البطون، وخاصة في دول الأزمة الكارثية التي توسعت في الإنفاق اعتمادا على أن هناك دائما من سيكون قادرا على الإقراض. ولكن مثل هذا الحل التلقائي لم يخلق مشكلة سياسية فقط حينما ضجت الجماهير بمن طالبها بالتقشف، وإنما خلقت معضلة قوامها أن التقشف يعني تقليص الطلب، ومن ثم تراجع إنتاج السلع والخدمات، أي انكماش الاقتصاد والدخول في دورة انكماشية جديدة حتى والدورات الانكماشية القديمة إما أنها لم تنته بعد، وإما أنها سوف تستأنف قبل أن يسترد الاقتصاد عافيته. والأخطر من ذلك كله أن المشروع الأوروبي نفسه بات موضع تساؤل، وطرح الناس عما إذا كان إنشاء منطقة اليورو قرارا حكيما أم لا، حيث لا يكفي أن يكون هناك عملة أوروبية موحدة يصدرها بنك مركزي أوروبي بينما تتبع الدول الأوروبية سياسات مالية ذات طبيعة سيادية تخص كل دولة.

القضية الأوروبية هكذا صارت ذات طبيعة حدية فإما مزيد من الوحدة الأوروبية تؤدي إلى وضع السياسات الاقتصادية في يد سلطة أوروبية لا بد أن تكون «ألمانية»، لأن ألمانيا ليست فقط هي التي بقيت على صحتها الاقتصادية، ولكن لأن رأس المال في الدول الأوروبية لم يجد سوى ألمانيا، ومعها عدد قليل من الدول، لتكون المجال الآمن للاستثمار والاقتراض والتعامل الاقتصادي. من يقبل ذلك؟ وماذا تفعل بريطانيا التي ليست جزءا من منطقة اليورو ولكنها تسير بجانبه ولها وجهات نظر سياسية لا ترحب كثيرا بهذه الحالة من «الهيمنة الألمانية»؟ السؤال الحدي الآخر: هل تستمر إجراءات التقشف أم أنه لا بد من استعادة النمو مرة أخرى؟ وإذا كان الفرنسيون قد أجابوا بالنمو في انتخاباتهم عندما أطاحوا بساركوزي، فهل يقبل الألمان بتبعات السياسة الفرنسية ونفقاتها المتزايدة على الاقتصاد الألماني الذي يدفع الألمان دوما إلى التساؤل عما إذا كان عليهم دوما أن يدفعوا ضريبة نجاحهم؟

الغريب أنه رغم الركود العالمي، فإن كل جوانب «العولمة» تسير بسرعة فائقة، والثورة التكنولوجية الصناعية الرقمية تتضاعف تأثيراتها على حركة العالم وانتقال الأفكار والأشخاص والمصانع فيه. الجديد في الدنيا أن العالم يتغير رغم الركود والانكماش الاقتصادي، وحتى الولايات المتحدة مشغولة بانتخاباتها ومطاردة قادة «القاعدة» الذين عندما يتركون أفغانستان يجدون عشرات المناطق الأخرى التي ينتشرون فيها. وإذا كانت الدنيا تنقلب لدينا رأسا على عقب، فإن ذلك هو ما يجري تماما في العالم أيضا!