التوقيت السعودي: شرعية الداخل في زمن التكهنات والصور النمطية!

TT

رغم إيمان الجميع بقوة الدولة السعودية التي تجلت في فترات تاريخية عسيرة وصعبة ومليئة بالمنحنيات، فإن كل منعطف سياسي يقتضي تغييرا ما، وتبدأ التكهنات وتنسج الأساطير، ويتم الحديث عن واحدة من أهم وأقوى دول المنطقة بطريقة لا تتناسب مع أكثر الدول الصغيرة اضطرابا وتوترا. وإن كان هذا السلوك يمكن فهمه لا تبريره من شخصيات تحمل موقفا عدائيا صريحا، إلا أنه يتجلى بشكل انتهازي صارخ لدى شخصيات مصابة بعقدة «الصورة النمطية» في كل مرة يتجدد فيها حدث سياسي في الداخل السعودي.

الصورة النمطية هي التعبير الأدق لمصطلح «stereotype»، والتي يتم الحديث عنها بشكل متكرر في نقد كتابات المستشرقين وتصوراتهم حيال العالم الإسلامي، وهو مشتق من عالم النشر، حيث تصب القوالب في صفائح معدنية نمطية يمكن استخدامها عشرات المرات، لكنها تحولت إلى مصطلح رائج في العلوم الإنسانية تعني في شقها مما تعنيه في شقها السياسي بثبات الآراء التعميمية وبشكل تقويمي إلى دولة أو فئة أو تيار أو سكان محليين دون مراعاة للتحولات التي تطرأ على هذه الأحكام وتقتضي تغييرها.

صحيح أن سياقات الدولة السعودية في مراحلها المختلفة كانت تعاني من سلبية التصنيف التي راجت في مراحل مختلفة وبلغت أوجها في الفترة الناصرية التي أبدع فيها العرب تصنيفا، بدءا من الصحراء في مواجهة القبيلة، ومرورا بثنائية عرب النفط وعرب الماء، وصولا إلى محور الممانعة والصمود الذي يعيش أكثر أيامه بؤسا من الناحية السياسية والاقتصادية.

إلا أن ذلك التصنيف كان مفرغا من القيمة السياسية الحقيقية، حيث كانت الأحكام هي مجرد تصنيفات متعالية لا تعكس لا حجم ولا توازنات تلك البلدان السياسية، ولذلك فإن التصنيف في بعده السياسي هو جزء من الأحكام المسبقة التي يتم منحها بمجانية في فترات التحولات الكبرى عشنا ذلك في السعودية وعانينا منه كثيرا في أزمات حقيقية في عهد الملك فيصل ثم في حوادث متفرقة داخليا وإقليميا كحربي الخليج والحادي عشر من سبتمبر، بل وحتى في أزمات داخلية كحادثة جهيمان والحوادث الإرهابية التي كانت مرتعا لتكرار الأحكام المسبقة في حين أن التعامل معها كان وجها مشرفا للسعودية وتجربة ما زال الحديث عنها يستدعى ثناءات وإشادات المجتمع الدولي، والتي كان لها دور بارز في الحرب على الإرهاب التي قادها الراحل الأمير نايف ورجالاته جعلت شرائح كثيرة من المجتمع في الداخل يغيرون «صورتهم النمطية» ومفهومهم لقيمة الأمن وتقديرهم لقيمة «الاستقرار» في ظل زمن يموج باضطرابات عصيبة جدا طالت دولا كانت تتعامل بالقبضة الأمنية ضد مواطنيها بطريقة مفزعة في حين كان أصحاب «الصور النمطية» يكيلون لها الاعتذارات بأنها رأس الحرب في مواجهة إسرائيل، والحقيقة أن ثمة تشويها بالغا لمفهوم العروبة نحتاج لسنوات طويلة للتخلص منه بعض أن اختزل بشكل قسري في التجربة الناصرية وأحزاب البعث التي ما زلنا نجتر آثارها السلبية.

ربما كان أحد أهم عيوب «الصورة النمطية» التي نعاني منها في فهم طبيعة وحراك المجتمع السعودي هو ذلك التبسيط المخل المرتبط بالتعميمات، وهي عادة ما تكون مناخا صحيا لتكاثر الإشاعات والتكهنات السياسية التي تدعو أحيانا للضحك، مثل افتعال صراعات سياسية داخلية وخلافات يتم تصويرها والحديث عنها بشكل تفصيلي لا يمت للواقع بصلة بقدر أنه يعكس تغلغل الصورة النمطية في قالبها السياسي.

في تجربة الدولة السعودية عبر مراحلها الثلاث كانت الشرعية تكتسب عبر تراكمات سياسية طويلة يعززها تحولات اقتصادية واجتماعية هائلة باتجاه التقدم والإنجازات على الأرض، وكانت المهمة التي تصدى لها المؤسس الملك عبد العزيز منذ البدايات هو تفتيت الصورة النمطية في العلاقة بين السلطة السياسية والمجتمع، وذلك عبر إدماج الكيانات القبلية الكثيرة والمتشعبة ضمن مفهوم المجتمع الواحد ليتأسس مع هذا الاندماج كيان الدولة الذي يشمل الحكومة والمجتمع والأرض المحكومة بالإرادة السياسية المبنية على شرعية الداخل، وهي شرعية تتجدد مع التحولات السياسية التي هي جزء من قدر أي دولة حديثة، ولذا كل تجاهل للتحولات الهائلة التي مرت بالسعودية في تأسيس مفهوم الدولة المبنية على شرعية الداخل هي قراءة رغبوية للتاريخ.

رحيل الأمير نايف الصادم والمفاجئ والذي عكست أصداؤه مكانته الكبيرة التي حظي بها في الداخل والخارج وأثره كصمام أمان في الأمن المجتمعي عبر استراتيجيته في الحرب على الإرهاب، أوقظ الصورة النمطية في بعض وسائل الإعلام الغربية كجزء من الاهتمام بالسعودية مكانة وتأثيرا، لكنه استدعى تبعا لذلك سيلا من التكهنات على مواقع التواصل الاجتماعي كانت تعبر عن حالة الاحتقان السياسي أكثر من قراءتها الحقيقية لواقع الاستقرار والشرعية الذي تحظى به السعودية.

التوقيت السعودي كان ذكيا بامتياز رغم المصاب الجلل، وفي حين أن كثيرا من المراقبين كان يعتقد أن اختيار ولي العهد ووزير الداخلية ربما يتأخر حتى انتهاء مراسم العزاء؛ إلا أن الإسراع في إعلان البيان الملكي كان إيذانا في إسدال ستارة التكهنات على المسرح السياسي العبثي في أزمنة الثورات وفي فترة عصيبة للمنطقة.

التوقيت السعودي تعالى على الفاجعة ردا على محاولات شخصنتها الذي يحاول أن يستتبع الصورة النمطية حول مفهوم «الكيانات السياسية» وليس الدولة بالمعنى الحديث، الدولة التي صمدت أمام عواصف الثورة بفضل شرعية الداخل التي فقدتها الكثير من البلدان التي مستها رياح الثورات، والتي لم تكن مخفقة من الناحية الاقتصادية أو في علاقاتها بالمجتمع الدولي بقدر أن شرعية الداخل لديها كانت متآكلة.

أكبر رد على المنتفعين من تكرس «الصورة النمطية» هو إبراز الحقيقة في العلن والهواء، فتح المجال لاكتشاف المجتمع السعودي سياسيا وثقافيا واجتماعيا في محاولة للفهم الدقيق لمكونات المجتمع وخصوصية التفاصيل الصغيرة لكل مكون التي هي في مجملها مصدر ثراء وتنوع هائل للسعودية.

قبل خمس سنوات كتب واحد من مجموعة باحثين يشرف عليهم البروفسور الفرنسي الكبير جيل كبيل، رئيس معهد العلوم السياسية في باريس، الذي خصص مقعدا بحثيا عن الخليج، وهو الصديق محمد نبيل ملين، عن المؤسسة الدينية «علماء الإسلام»، والذي قرأ فيه العلاقة بين الديني والسياسي في التجربة السعودية بشكل عميق ومميز ساهم في تبديد الكثير من الأوهام، ليس لدى الباحثين الغربيين فحسب، بل لكثير من المثقفين العرب والسعوديين الذين كانوا أسرى لتلك الصورة النمطية الضيقة.

درس التوقيت السعودي في زمن التكهنات السياسية واحد من أهم دروس المرحلة ولا يقل أهمية عن كل المراحل التي تم تجاوزها في السابق والتي ساهمت في تدعيم الاستقرار السياسي وإعادة تجديد الشرعية وفق طبيعة العلاقة بين مكونات المجتمع، رحم الله الأمير نايف الذي ندين له بالكثير في ما يخص تعزيز «قيمة الأمن» كمكتسب ومنجز وطني.

[email protected]