غولان ـ أردوغان.. لمصلحة من يكون الانفصال؟

TT

وقف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الأسبوع المنصرم أمام عشرات الآلاف من أنصار جماعة النور الإسلامية التركية الذين كانوا ينظمون احتفالات العام العاشر لأولمبياد اللغة التركية العالمي في إسطنبول ليطلب من الأب الروحي للحركة فتح الله غولان العودة إلى تركيا بعد أكثر من 13 عاما أمضاها في المهجر القسري، مخيبا آمال البعض من الأتراك الذين كانوا يراهنون على مقاطعته لاحتفالات هذا العام بعد تراجع العلاقات بين الحركة وحزب العدالة والتنمية بسبب اختلافات في وجهات النظر حيال أكثر من قضية داخلية وخارجية.

ومع أن جواب غولان، الذي غادر تركيا بعد أحداث 28 فبراير (شباط) وانقلاب ما فوق الحداثة التي نفذته المؤسسة العسكرية عام 1997، على طلب أردوغان جاء بالنفي، وأنه سيبقى في منفاه الاختياري في بنسلفانيا الأميركية حتى لا يمنح بعض المراهنين على تفجير الداخل التركي الفرص بعد كل هذه الإنجازات التي حققتها تركيا في العقد الأخير، فإن هذا لا يمنع حقيقة وجود تباعد في الآراء والمواقف. الجماعة تعرف أن أردوغان فتح قلوب أنصارها عندما وقف يكرر دعوته لزعيمها بالعودة من المهجر.

لكن قياداتها تعرف أن أردوغان الذي فعل سياسيا كل المطلوب منه لا يمكنه أن يتجاهل وجود خلافات حقيقية في طرح الحلول لمشكلات وأزمات كثيرة تعيشها تركيا في هذه الآونة. بادرة أردوغان ليست الأولى من نوعها حيال غولان، لكن الأخير لا يريد، وكما فهمنا، أن يعود قبل أن تكتمل حركة الإصلاح والتغيير وتحقيق إنجازات دستورية اجتماعية تعليمية تقطع الطريق على محاولات العودة بتركيا إلى ما قبل عقد وتنهي كل الجهود التي بذلتها الجماعة بالتنسيق مع أردوغان وحزبه.

غولان الذي اختارته قبل 4 أعوام مجلة «فورن بوليسي» الأميركية ليكون بين الأشخاص المائة الأكثر تأثيرا في العالم، اضطر إلى الهجرة بسبب المضايقات والتهديدات والضغوطات والكثير من المحاكم والقضايا التي كانت تطارده، يقود اليوم حركة النور التي يصفها البعض بأنها ثالث أقوى مركز قرار في البلاد بعد العدالة والتنمية والمؤسسة العسكرية، لها الملايين من المناصرين وتمتلك رأسمال يتجاوز عشرات المليارات من الدولارات ومئات المدارس الخاصة والكثير من الجامعات والمؤسسات التعليمية والاقتصادية والإعلامية المرتبطة بهذا الفكر الذي أطلقه المؤسس سعيد نورسي في مطلع القرن المنصرم. من هنا فإن قرار التعاون والتنسيق بينهما جاء نتيجة قناعات مشتركة حول ضرورة الإقدام على زواج من هذا النوع هو نادرا ما يحصل في تركيا، ليس بسبب حاجة بعضهما إلى بعض لتولي دفة القيادة في البلاد، بل بسبب تدهور الأوضاع في تركيا ووصول البلاد إلى الطريق المسدود في المسائل السياسية والاقتصادية والحكومية. حزب سياسي محافظ جذوره إسلامية محسوبة على نجم الدين أربكان يظهر إلى العلن باسم العدالة والتنمية وحركة اجتماعية فكرية إسلامية تصر على الابتعاد عن السياسة، لكنها دائما في قلب الأحداث ومراكز القرار في تركيا.

بعض الأقلام العلمانية المعارضة التي تحاول دائما الاصطياد في ماء عكّره تدهور وتراجع العلاقات بين الطرفين، تردد أن حركة غولان بدأت تشعر بتراجع تدريجي للعدالة والتنمية في تركيا أمام أزمات كثيرة، من هنا هي تريد استباق الأحداث والمفاجآت من خلال فض شراكتها مع حزب أردوغان. بعضها الآخر يرى أن سبب التباعد هو انزعاج العدالة من توسع انتشار رقعة نفوذ الحركة إلى درجة تهدد موقعه ومكانته. آراء أخرى تقول إن الشراكة كان لا بد أن تنتهي لأن ما جمعهما حتى الآن لم يعد قائما ولم يعد يفرض عليهما هذا التقارب والاتفاق.

استطلاعات الرأي في تركيا تقول إن فرص احتفاظ العدالة والتنمية بالسلطة في الحقبة المقبلة قوية جدا ما دام أنه لا وجود لمنافس سياسي حقيقي قادر على تهديد حصونه في الحكم والإدارة، لكن تحليلات داخلية وخارجية لا تستبعد سيناريوهات هزهزة عرش العدالة وقطع الطريق على أردوغان بالوصول إلى قصر الرئاسة في شنقايا عبر ضرب قواعده وعلاقاته من الداخل، وقد تكون عملية استهداف تحالفه المزمن مع حركة غولان أو تفتيت الحزب وشرذمته بدائل وخيارات مطروحة ومحتملة عند الضرورة.

الطرفان قادا عبر متراس مشترك المواجهة مع العلمانيين المتشددين وصقور الأتاتوركية في الجيش والقضاء والتعليم العالي، وساهما في رفع أرقام الاقتصاد التركي وتحسين صورة تركيا في الداخل والخارج، وحركا الكثير من مشاريع التقارب والانفتاح باسم الحوار بين الأديان والحضارات مع عشرات الدول والمنظمات والهيئات العالمية. لكن تباعد آرائهما في طريقة التعامل مع أزمة أسطول الحرية قبل عامين واستهداف رئيس المخابرات التركية هاقان فيدان وطريقة إدارة الموضوع الكردي في تركيا والإعداد للدستور التركي الجديد ومحاكمات المتهمين بالانقلابات العسكرية واستهداف الحكومة، لا يستبعد احتمال القطيعة طبعا.

فمع أن الحركة تعرف تماما أن قرار الابتعاد عن العدالة والتنمية سيعرض الكثير من مشاريعها وإنجازاتها للتراجع، فإنها لن تتردد في قطع علاقتها بأردوغان وحزبه عندما تتعارض المصالح والمواقف والسياسات، وهي فعلت ذلك أكثر من مرة طيلة عقود في تركيا من خلال دعمها لأحزاب وشخصيات سياسية متنوعة الميول والاتجاهات. لكن ما لا نعرفه نحن بالطبع هو إذا ما كان أردوغان وحزبه قادرين على الإمساك بخيوط اللعبة في تركيا إذا ما تخلت حركة غولان عنه. فهل سينجح في تأمين البديل الذي يعوضه فقدان هذا الشريك الاستراتيجي المهم؟

أصوات متشددة في العدالة والتنمية تقول إن أردوغان لن يسمح بنقاش فرص إقامة دولة داخل الدولة، غامزا من قناة انتشار وتمركز أنصار حركة غولان في مواقع الإدارة وإصرارها على المساومة على ملفات أمنية وسياسية حساسة، يبدو أن أردوغان لن يتنازل بشأنها، وفي مقدمتها تركيبة وقيادات جهاز الاستخبارات التركي الذي يقوده هاقان فيدان المقرب منه. لكنّ أصواتا أخرى تردد أن العدالة والتنمية الذي لوح قبل أيام بغصن الزيتون يريد أن يعود الجانبان إلى طاولة الحوار ومناقشة الفرص والخيارات القادرة على قطع الطريق على أي مواجهة أو صدام بين القوتين سيفقد تركيا حظوظ لملمة الكثير من المبعثرات ومداواة الجراح العميقة التي عاشتها البلاد لعقود.

أصوات وأقلام متفائلة بالمقابل ترى أن التأزم هو على مستوى القيادة والأقلام وبعض المنظرين في الجانبين، أما القواعد الشعبية فهي تشرب من نبع واحد لا يريد أي منها أن يسقط فيه حجرا أو يلوثه في مثل هذه الظروف الصعبة التي تعيشها تركيا، خصوصا أن أماكن انتشار ونفوذ الكتلتين لا تتقاطع على مستوى القواعد، فهو توافق بين تكتل سياسي بتوجه إسلامي محافظ وبين جماعة إسلامية بتوجه معتدل، استراتيجيتها تقوم على نشر المدارس والمؤسسات التعليمية والتربوية والتوجيهية التوعوية قبل أن تكون تعبوية.

الرابح الأول في مواجهة من هذا النوع هو من يزعجه وجود أنقرة في غرفة القيادة الإقليمية في مثل هذه الظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة. طبعا إلى جانب العلمانيين المتشددين فإن إيران وروسيا وإسرائيل وسوريا هم في طليعة المستفيدين من هذا التباعد.