متى تهبط عليك الفكرة؟

TT

كثيرا ما تفيض قريحة الإنسان فجأة، فتتدفق بالأفكار الملهمة من حيث لا يدري. والعظماء على مر التاريخ عايشوا ذلك، ومنهم أرخميدس، الذي قيل إنه «كان حائرا في مشكلة فيزيائية ثم دخل الحمام ولم يكد يغطس في الماء حتى جاءه الحل فجأة، فخرج إلى الشارع عاريا وهو يركض صارخا: وجدتها!». وكذلك العالم نيوتن الذي كان جالسا إلى شجرة يتأمل في السماء حائرا كيف تدور الأفلاك في نظام ثابت، ثم سقطت بجانبه تفاحة، فكان سقوطها حافزا له لاكتشاف نظرية الجاذبية المشهورة، حسبما ذكر أستاذ علم الاجتماع د.علي الوردي في أحد كتبه.

وليس هذا فحسب، بل تظهر إحدى الدراسات أن كثيرا من أفكارنا تهبط علينا في أوقات غير متوقعة، مثل لحظات الاستحمام تحت رذاذ الماء المنهمر من صنبور المياه العلوي (الدش)، أو أثناء قيادة السيارة، أو ممارسة الرياضة، وغيرها. وأذكر أنني سمعت شاعرا يقول في التلفزيون «ما إن تأتيني فكرة القصيدة أو مطلعها حتى أركن سيارتي فورا في أقرب موقف لأدون إلهامي»، وهذا يحدث معنا ككتاب عموما، إذ لا نستطيع مقاومة الأفكار، لأن لحظة ولادة الفكرة هي مثل خروج رغيف الخبز من فرن لاهب، يصعب تأجيل متعة تناوله.

والأفكار كالأطعمة أو الأشربة، يمكن تأجيل بعضها حتى تختمر قليلا، وأخرى تفسد بسرعة أو تتبخر، فيصبح تدوينها أمرا لا مفر منه. ولذا قال ابن القيم كلمته الشهيرة «العلمُ صيدٌ والكتابة قيده». وهذه الأفكار التي يهبط علينا بعضها ناقصا تحتاج أن ننقلها إلى آخرين علنا نجد لديهم ضالتنا فيكتمل عقد الفكرة. فمن الأفكار ما يحتاج إلى تلقيح حتى يثمر مشروعا صالحا للتطبيق. ولذا فإنه مما يثير الاستغراب حقا إصرار شخص أو حزب أو مسؤول أو «شلة» في العمل في لقاء ما على التشبث بهذه الفكرة الناقصة وعدم استعدادهم لسماع وجهات النظر الأخرى حتى تتبلور الفكرة ثم يشع نورها.

وأقرب مثال على ذلك مخترع الإنترنت الذي عكف على تطوير فكرته لما يربو على عشر سنوات حتى نضجت، بعد أن طورها واستمع إلى أفكار الآخرين ونصائحهم. فصارت قابلة للتطبيق، بل غيرت مجرى حياة الناس حول العالم. وهي دليل آخر على أن فكرتك التي هبطت عليك في مكان غير متوقع، وربما أمام زملاء تندروا عليها، قد تحدث لاحقا جلبة في عملك أو بلدك أو العالم أجمع.

وصدق من قال إنه «ليس هناك أفضل من فكرة آن أوانها»، وحينما يحين وقت الفكرة لا بد أن نقتنصها كما يقتنص الصياد الماهر صيده.

[email protected]