لكل امرئ قدره حسب قدره

TT

اعتدنا منذ طفولتنا على اتهام الغرب والغربيين بإجحاف حقوقنا وتجاهل منجزاتنا، والنظر بعنصرية تجاهنا، واحتقار رجالاتنا، والتعالي عموما علينا. في هذه الفكرة جانب كبير من الصحة، ولكن لها جانب آخر، ككل شيء في هذه الدنيا. هذا الرجل الأفريقي الأسود اللون، الشيوعي المبدأ، الذي قضى جل حياته في السجن، أصبح الآن النجم الثاقب في دنيا السياسة والفكر. لم يتردد الغربيون في إعطائه حق قدره. قلما تدخل مدينة أوروبية كبيرة دون أن ترى تمثالا كبيرا له. هناك في لندن نصب برونزي رائع له بجانب قاعة الفستفال هول المهيبة. نشروا سيرة حياته في ثلاثة مجلدات. ولا تدخل مكتبة عامة دون أن تجد شتى الكتب عنه. تغنى بذكره نجوم الطرب ومشاهير الشعر والمسرح. وأخيرا صاغوا سيرة حياته وأفكاره في أوبرا كاملة «مانديلا»، ينشد فيها المغني الأوبرالي التنر نتفا مما كتبه في السجن. وجلسنا نحن نتساءل يائسين: لماذا لم نستطع أن ننجب مانديلا واحدا؟!

لم يتعالوا عليه أو ينظروا إليه باحتقار أو يبخسوه قدره. هذا ما فعلوه حيال رجل أسود آخر. المهاتما غاندي. ناصب الإنجليز العداء وعبأ شعبه ضد الاستعمار البريطاني، ولكنه عندما زار لندن في الثلاثينات تعطلت الحياة فيها عند وصوله، حيث تدفق مئات الألوف إلى شوارع المدينة ليرحبوا به ويهتفوا باسمه.

ما هو نصيبنا من هذه الأمجاد، نحن العرب من أبناء هذا العصر؟ تساءلت وحككت رأسي وذاكرتي. آه نعم. رأيت في طفولتي فيلما من روائع ما أخرجته هوليوود في الثلاثينات عن بطولاتنا. قام الصبي الأسمر «سابو» بدور البطولة فيه. ونال الفيلم رواجا كبيرا بيننا. كم استمتعنا به أطفالا صغارا. The Thief of Baghdad، «لص بغداد»، كان الفيلم نبوءة ذكية لما سيؤول له مصير بغداد.

وآن لي في هذه المناسبة أن أقول شيئا عن حرامية هذا الزمان. أنا في الحقيقة لا اعتراض لي على مهنة الحرامية. كان في أسرتي نفر منها. ولكن حرامية الأمس تميزوا بالوطنية. حالما يسرقون شيئا من أموال الدولة كانوا يبنون به قصورا لهم ويتزوجون ويطلقون ويشترون عبيدا وجواري وينعمون على غانياتهم بالمجوهرات والحرير، فتبقى الثروة داخل الوطن. وسرعان ما يتسرب منها شيء للضعفاء والفقراء عبر الصرف والخدمة والعمل.

بيد أن حرامية هذا الزمان يتصرفون كمجرد سياح أو مستثمرين أجانب، وبالفعل ترى الكثيرين منهم يحملون جنسيات أجنبية. زوجاتهم وأولادهم في الخارج وعشيقاتهم أوكرانيات أو روسيات يشترون لهن فيللات فاخرة في موناكو أو برايتن. لا تجد بينهن امرأة واحدة من بنات وطنهم. وحالما يحققون سرقة جيدة يبادرون إلى إيداعها في بنوك سويسرا ولختنشتاين. وعندما يستثمرون أموالهم يشترون بها عقارات في لندن ونيويورك. وحتى عندما يتصدقون أو يزكون يهبون زكاتهم للمؤسسات الخيرية الأجنبية. لا تنال أوطانهم شيئا من سرقاتهم ولا يتسرب منها شيء للمحتاجين من أبناء بلدهم. آه! يا ليتنا نرجع إلى أيام «لص بغداد» الأصلية، ذلك الصبي الكريم الحنون على أهله.