«السلك» القضائي.. غطوه!

TT

مع صدور حكم المحكمة الدستورية العليا الأخير بمصر الذي كان نتيجته حل البرلمان كاملا والإقرار بعدم دستورية مشروع قانون العزل السياسي، والسماح بالتالي للمرشح الرئاسي الفريق أحمد شفيق بالاستمرار في السباق الانتخابي، يبدو أن اللعبة السياسية انتقلت من المواجهات الميدانية في الساحات والميادين إلى قاعات المحاكم، وبات أبطال هذه المرحلة هم القضاة والمحامين، بعد أن كانت النجومية سابقا من نصيب الساسة والثوار والعسكر.

ولقد أصاب القرار الصادر من المحكمة الدستورية شريحة غير بسيطة من المصريين بالصدمة وأوقعهم في حيرة شديدة جدا، فلقد أصبحوا بسبب هذا الحكم في حيرة كبيرة من أمرهم، فهم من جهة لا بد أن يحترموا القانون وقرار القضاء ويلتزموا بما فيه، ومن جهة أخرى يشعرون بظلم فادح وقع عليهم وأضاع منهم فرصة الإصلاح الثوري وتحقيق مكاسب التغيير المتوقعة.

وكما كان منتظرا؛ أطلق الفريق المتضرر من هذا الحكم سيلا من التصريحات يشكك في نوايا القضاة، ويؤكد هذا أن القضاء «مسيس» وليس مستقلا ولا نزيها، وطبعا هذه ثاني مرة في فترة متقاربة ينفتح فيها ملف انتقاد القضاء في مصر بعد الحكم المثير للجدل الذي صدر على الرئيس السابق محمد حسني مبارك ونجليه ووزير داخليته ومساعديه.

والحديث عن «استقلال» القضاء و«نزاهة» القضاء موضوع ليس مصريا فقط، ولكنه هاجس عربي بامتياز، إذ إنه يبدو العقبة الرئيسية أمام إنجاز حقيقي للعدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد والإصلاح السياسي.

فمفهوم «استقلال» القضاء له معايير كثيرة وكبيرة، وليس مجرد لفظ رنان وجذاب، فلا بد للقاضي الذي يقدم على النظر في القضايا المعروضة عليه أن يكون لديه الحرية الكاملة للحصول على أي معلومة، واستدعاء أي شاهد، واتخاذ أي قرار يحقق العدالة، وبطبيعة الحال إحدى أهم وسائل تحقيق هذه المنظومة هي الاستقلالية المالية للمنصب، وتحقيق الكفاية المادية لصاحب المنصب، وعليه لا بد من تحقيق إعادة هيكلة جادة في رواتب ومزايا القضاة لأجل إبعادهم أو التقليل من مغريات المال والفساد المصاحب له، والذي يحقق الظلم ويعيق تحقيق العدل بطبيعة الحال.

وثقة الناس في المنظومة القضائية والاعتقاد الحقيقي والجاد بنزاهتها هي إحدى أهم وسائل تعزيز الولاء والانتماء للأوطان، وهي مسألة أدركتها دول كثيرة، لعل أبرزها دولة صغيرة من دول العالم الثالث هي سنغافورة التي اعتنت بالجهاز القضائي على أفضل ما يكون، فدعمت القضاة بالمال والمكانة، ومنحتهم الاستقلالية الكاملة، وأصبحت تحظى بمكانة استثنائية بين دول العالم مما جعلها تصل لمرتبة مميزة وهي المركز الثاني في دول العالم كأكثر الأجهزة القضائية استقلالا ونزاهة، وهو إنجاز أشبه بالإعجاز لدولة صغيرة وناشئة.

إحساس الناس والشعوب بالعزة والافتخار بأنظمتهم وأجهزتهم القضائية يتعدى هتاف «يحيا العدل» ويذهب بعيدا عن التغني بتمجيد القضاء «المستقل» والإشادة به، ولكن يجب أن ينبع من إحساس دقيق بالاطمئنان التام والثقة به، كما قال لي أحد الأصدقاء واصفا أهمية الاعتناء بجهاز القضاء إن السلك «الكهربائي» إذا ما انكشف فالمصاب يكون شخصا واحدا، أما السلك «القضائي» لو انكشف يصيب الوطن بأكمله.

[email protected]