ذكرى صاحب العقد الاجتماعي

TT

في الأسبوع المقبل (28 يونيو/ حزيران) ستحل الذكرى المئوية الثالثة لميلاد المفكر السياسي، والأديب، والعالم الموسيقي، جان جاك روسو. روسو فيلسوف فرنسي باعتبار اللغة التي كان يكتب بها وهو كذلك بالنظر إلى ما درج عليه التقليد الفرنسي الأكاديمي وعلى وجه الخصوص بالنظر إلى المكانة التي أولاها إياه رجال الثورة الفرنسية إذ كانوا يعدونه من المبشرين بها، في مستوى الفكر السياسي، ومن حماتها بالنظر إلى ما أولته نظريته السياسية من مركزية للشعب، بل ولدلالة معنى لفظة الشعب ذاتها - وبالتالي فالرجل، في الوعي الفرنسي الجماعي من قادة الفكر وزعماء الحرية ودعاة التنوير.

والفيلسوف السياسي الذي يقترن اسمه، من بين المؤلفات الكثيرة والمتنوعة التي كتب، بكتاب «العقد الاجتماعي» سويسري، ليس باعتبار المولد والنشأة فقط، بل لأن روسو كان يحرص أشد الحرص على أن يوقع مؤلفاته ويعرف نفسه هكذا: «مواطن من جنيف».

وخلافا للاحتفالات التي علمت على الذكرى المئوية الأولى لميلاده (كما كان ذلك معروفا عند الغربيين عامة وعند الفرنسيين خاصة) وكانت تتسم ببرود شديد أو بجدل كبير حول المغزى الذي يقوم من ورائها وكذا الشأن بالنسبة للمئوية الثالثة، فإن الأمر يختلف هذه المرة والظاهر أن بلدية جنيف في سبيل إقامة احتفال ضخم بالمناسبة. بيد أننا نلاحظ أن الملاحق الثقافية في كبريات الجرائد قد أولت المناسبة أهمية كبيرة في فرنسا. وعلى سبيل المثال نذكر أن اليومية الذائعة الصيت «لوموند» قد أصدرت عددا تكريميا في إحدى الدوريات التابعة لها والشأن نفسه بالنسبة لمجلة «لو بوان» - وإن كانت قد جعلت الاحتفاء مناصفة بينه وبين رمز كبير من رموز التنوير في القرن الثامن عشر في فرنسا، وهو في الوقت ذاته من أشد خصوم روسو الذين أكثروا التندر عليه بل وحاربوه نوعا ما - والقصد به هو «فولتير». وفي الأوساط الجامعية (والسياسية أيضا) يتحدث الناس اليوم عن الحاجة إلى إعادة قراءة روسو وإلى استحضار درسه كاملا فضلا عن التذكير بفكره السياسي وبمبدأ التعاقد الاجتماعي خاصة.

الحق أن جان جاك روسو هو من زمرة أولئك المفكرين الذين يصح اعتبار فكرهم ملكا مشتركا للبشرية جمعاء. فليس صحيحا على الإطلاق القول إن فكر الرجل يتصل بالغرب الأوروبي وتاريخه الفكري وتطوره السياسي وتحوله الاجتماعي بل نحن معنيون به في وطننا العربي وحاجتنا إلى معرفة فكره واستيعابه لا تقل عن حاجتنا إلى استيعاب فكر كانط وديكارت والغزالي وابن رشد وابن خلدون والشاطبي وأضرابهم من مفكري الشرق والغرب على السواء. ونود، إسهاما عربيا في إحياء ذكرى مفكر سياسي فذ نكسب الكثير من معرفة فكره مقدمة لاستيعابه بل وربما مجاوزته، أن نستحضر شذرات من فكر الرجل وقوله في التعاقد الاجتماعي أساسا لعيش مشترك وحياة سياسية سليمة.

نرى من المفيد أن نذكر، من بين المكونات العديدة للنظرية السياسية الروسوية، بخمسة عناصر ترجع جميعها إلى قضية التعاقد الاجتماعي.

العنصر الأول، بل المبدأ الأساس الذي تقوم عليه النظرية هو وجوب التمييز بين الاجتماع الإرادي والاجتماع القسري. أما الاجتماع الثاني فهو ذاك الذي لا يملك الفرد فيه اختيارا من حيث السن أولا وأساسا، فالطفل الصغير يعيش داخل الأسرة التي ينتمي إليها بكيفية اضطرارية ولكنه يستمر في العيش داخلها، بعد مجاوزة السنوات الأولى وبعد القدرة على الاستقلال بذاته، بكيفية إرادية. تلك إحدى الجمل الأولى التي يستهل بها روسو كتابه الأشهر. ليست الأسرة هي النواة الأولى للاجتماع البشري فحسب، بل بهدف التنبيه، منذ بداية القول في السياسة ونظام المجتمع المأمول، إلى أهمية الإرادة والاختيار الحر ومن ثم محورية قضية الحرية وأسبقيتها على كل القضايا وكذا حضورها في المرحلة الأولى المبكرة من مراحل صياغة النظرية السياسية. لهذا السبب الأول يقترن اسم روسو بالحرية وينعت، في الأغلب عند الدارسين، بفيلسوف الحرية.

العنصر الثاني من العناصر المكونة للنظرية، ما يصح اعتباره عماها الروحي والفرضية التي تصدر عنها، هي الإقرار بالطبيعة العميقة الخيرة للإنسان أو ما يمكن أن ننعته بحال البراءة الأصلية التي يكون عليها الإنسان «قبل الدخول في المجتمع». وهنا لا بد من التنبيه إلى أن الحديث عن حالة سابقة على «الدخول في المجتمع» هو حديث افتراضي، الغرض من ورائه غرض بيداغوجي وتعليمي. ذلك لأنه ليس للإنسان أن يكون أبدا في حالة مماثلة فالإنسان، منذ نشأته الأولى، يعيش دوما في مجتمع، أي في اجتماع بشري. القصد البعيد هو الحالة السابقة على التعاقد الاجتماعي والمفكر في حاجة إلى نعت تلك الحالة بالشر (وهذا ما نجده عند الفيلسوف الذي يقف على الخط المناقض لروسو وهو البريطاني طوماس هوبز) أو القول فيه إنها حالة خير كما يقرر ذلك صاحبنا. بداية الشرور والآثام ترتبط بظهور الملكية وقول إنسان عن شيء ما «إنه لي». ما يلزم الاحتفاظ به هنا هو التمييز بين الحال السابقة على وجود الملكية والأخرى اللاحقة عليها - وغني عن القول إننا نبتسر الكلام في الفكرة لضرورة الإيجاز.

العنصر الثالث المحوري، (ما يشكل أحد العناوين الدالة على فكر روسو)، هو مبدأ الإرادة العامة. والإرادة العامة ليست البتة مجموع إرادات الأفراد الموجودين معا في اجتماع معلوم، ليست مجرد إضافات عددية يكون عنها ناتج عددي وإنما الإرادة العامة هي الناتج الخالص الذي يكون عن اجتماع مجموع الإرادات انصهارها في بوتقة واحدة وظهورها في نمط جديد سابق على التقرير.

التعاقد الاجتماعي، وهو العنصر الرابع، هو الصيغة المثلى المأمول بلوغها، تلك التي يقوم كل فرد من أفراد المجتمع بموجبها، بالتنازل عن «حقه الطبيعي» لكل الآخرين الذين يتعاقد كل منهم مع شخص يسندون إليه تدبير شؤونهم، في مقابل تمتيعهم بالحرية وبحماية القانون معا. التعاقد الاجتماعي تعاقد ثلاثي الأطراف: إنه، من جانب أول تعاقد بين الشخص الذي أتنازل له عن حقي الطبيعي في مقابل تسويد حق عام وقانون أسمى. وهو، من جانب ثان تعاقد مع كل الأفراد الآخرين الذين سيعملون مثل عملي. صيغة مثلى لا يجد جان جاك روسو، في التعبير عنها، أفضل من القول «فكأنك ترغم الناس على أن يكونوا أحرار» - من حيث أن الحرية على الحقيقة لا تتحقق، في اجتماع بشري، إلا في جعل القانون في المرتبة العليا مع مساواة الجميع أمامه مساواة تامة.

العنصر الخامس، لب النظرية التعاقدية وغايتها معا هو الشعب. وكما أن الإرادة العامة لا تكون مجموع الإرادات وإنما هي فوق ذلك كما ذكرنا، فإن الشعب ليس مجموع الأفراد داخل وجود اجتماعي معلوم بل إنه كتلة روحية وقوة لا تقبل التعدد (=السيادة)، ووجودها صنو للحرية وتعبير عنها في الوقت ذاته. لذلك فإن روسو يقول: إن شعبا ما يظل شعبا طالما ظل يرفض العبودية، ولكنه متى قبل ميثاقا يفقد بموجبه حريته فإنه يكف عن أن يكون شعبا.

ماهية الشعب حريته، والإرادة العامة هي التعبير القانوني الأسمى عن تلك الحرية. تلك، فيما نحسب خلاصة الدرس الذي يريد روسو لقارئه أن يفيد من «العقد الاجتماعي» وحقيقة التعاقد السليم، الوحيد الممكن.