مصير العنصرية الصهيونية

TT

قلنا في مقال الأسبوع الماضي إن العنصرية الصهيونية تقوم على مقولتين أساسيتين جاء بهما العهد القديم - التوراة - كما يحسبون - أولى هاتين المقولتين أن اليهود هم «شعب الله المختار» وأن غيرهم من البشر إنما خلقوا ليكونوا عبيدا لهم، هكذا تقول لهم كتبهم وأنبياؤهم. إن بقية الشعوب هم في عرفهم «غوييم» وهم أدنى من بني إسرائيل وما خلقوا إلا ليكونوا خدما لهم. بل إن قتلهم لدى غلاة المتعصبين الإسرائيليين لا يعتبر إثما وإنما قد يعتبر تقربا إلى إلههم الذي هو إلههم وحدهم دون سائر الناس «يهواه».

هذه هي بعض جذور العنصرية الصهيونية البغيضة التي ضاقت بها بلدان أوروبا ذرعا وطردتهم إلى حيث جاءوا إلى أرض الميعاد، أرض كنعان، التي هي أرض فلسطين التي كانت في عرفهم صحراء جرداء بلا شعب وجاءوا هم لكي يعمروها ولكي يسودوا البشرية.

فإذا كانت هذه هي الجذور فما هو المصير.

هل مثل هذه العنصرية المتعصبة المستعلية لها مكان في عالم المستقبل؟

هذا هو السؤال الذي نطرحه في مقال اليوم ونحاول أن نجيب عنه إجابة موضوعية، لا باعتباري عربيا يؤمن بعروبته وأمته وإنما باعتباري إنسانا يحب إعمال حكم العقل ويرى أن من أسباب الاستنارة والرقي أن يعمل الإنسان عقله قبل هواه.

وفي الرد على الجانب النظري من الموضوع اعتمدت على مصدرين علميين الأول هو كتاب «the bible unearthed» الذي يترجمه البعض بعنوان «التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها» لكاتبين إسرائيليين كبيرين أولهما الأستاذ الدكتور إسرائيل فنكلشتاين أستاذ ورئيس قسم الآثار في جامعة تل أبيب، وثانيهما هو الباحث والمؤرخ الأميركي فيل أشر سليبرمان، وهو يهودي أيضا. ويذهب المؤلفان في هذا الكتاب الخطير إلى أن ما يقال له العهد القديم هو ليس إلا مجموعة من الأساطير. وقد جاء في نص الكتاب (ص 28) أنه «أصبح واضحا الآن أن العديد من أحداث التاريخ التوراتي لم تحدث لا في المكان ولا بالطريقة والأوصاف التي رويت في (الكتاب المقدس العبري) بل بعض أشهر الحوادث في الكتاب المقدس العبري لم تحدث مطلقا أصلا».

وجاء في صلب الكتاب أيضا (ص 173) أن كل الحفريات الأثرية التي أجريت في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حول جبل الهيكل أخفقت في وجود أثر بسيط لما يقال له هيكل سليمان.

وهكذا شهد شاهدان من أهلها العلماء الثقات.

والدراسات التي أجريت حول «الكتاب المقدس العبري» الذي يقال له لدى المسيحيين العهد القديم كثيرة. والدراسات العلمية منها تتجه نفس اتجاه الكتاب السابق من أن عنصر الأساطير «والحكايات» هو الغالب في هذا السفر الذي ما زال بعض الناس يؤمنون به بل ويتعصبون له. إن الدين في جوهره سماحة ومحبة ولكن التعصب البغيض هو الذي يحوله إلى عنصرية وتكبر واستعلاء كما نراه عند الصهاينة وكما شرحنا من قبل.

وهناك كتب كثيرة أخرى في هذا السياق، ولكني أتوقف هنا عند كتاب «المناهضة اليهودية للصهيونية» للكاتب اليهودي المعروف الدكتور باكوف رابكن. وقد قام مركز دراسات الوحدة العربية بترجمة الكتاب ترجمة دقيقة ونشره على نطاق واسع. والكتاب يبشر بأن إسرائيل بحكم تركيبتها وتناقضاتها مصيرها إلى زوال. والكتاب موجود لمن أراد أن يستزيد. ونشرت الطبعة الأولى للكتاب في بيروت عام 2006.

وإذا كنت أرى أن هذه العنصرية ليس لها مستقبل، فكيف سيتحقق ذلك؟

بطبيعة الحال لن يحدث ذلك غدا أو بعد غد. ولكن التحول قد بدأ وقد اعتبر أن قبول دولة فلسطين في منظمة اليونيسكو هو الخطوة الأولى الحاسمة في هذا الطريق الطويل.

وبمناسبة الحديث عن هيئة الأمم المتحدة وهي المنظمة العالمية الأم التي تضم معظم - إن لم تكن كل - دول العالم في عضويتها والتي كان قرارها عام 1948 هو الأساس القانوني لوجود دولة إسرائيل على أرض فلسطين التاريخية، فإن هذه المنظمة نفسها هي التي تصدر في أجهزتها الآن بين الحين والآخر الإدانات المتكررة للعدوان الإسرائيلي على حقوق الشعب الفلسطيني الذي يعتبر من ناحية القانون الدولي خاضعا للاحتلال الإسرائيلي. ومن أهم القرارات التي أصدرتها واحدة من أهم منظمات الأمم المتحدة وهي محكمة العدل الدولية القرار الذي أصدرته بأغلبية 14 عضوا من أعضائها الـ15 (بامتناع القاضية الأميركية في المحكمة) وهو قرار إدانة جدار الفصل العنصري واعتباره عملا غير مشروع ومخالفا للقانون الدولي. وقد شرفت بأن أكون أحد ممثلي جامعة الدول العربية أمام محكمة العدل الدولية في الدفاع عن الحق الفلسطيني كما ترافع عدد آخر من الفلسطينيين ذوى الكفاءة الرفيعة.

تقديري أن هذا القرار من محكمة العدل الدولية وأن القرار الأخير لمنظمة اليونيسكو بقبول دولة فلسطين عضوا في المنظمة والإدانات المتكررة لمجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الدولية لتصرفات إسرائيل، هي كلها بدايات لانتهاء الصلف الصهيوني.

ومع ذلك فإن مصير العنصرية الصهيونية لا يبدو قريب النهاية. ذلك أن الولايات المتحدة تقف حجر عثرة أمام كل تسوية عادلة للمشكلة. وإن كان يبدو واضحا أن الضمير العالمي بدأ يستيقظ وبدأت الجرائم الصهيونية تثير سخط الكثيرين وغضبهم في أنحاء متفرقة من العالم.

كذلك فإن الصلف الإسرائيلي الذي يصمم على أن تظل إسرائيل الدولة النووية الوحيدة في المنطقة وأن تظل أقوى دول المنطقة تسليحا ووقوفا لبرنامج إيران النووي - سواء كان سلميا كما تقول إيران أو غير سلمي كما تقول أميركا وإسرائيل - فإن هذا التوتر الذي تثيره إسرائيل بالتأكيد ليس في مصلحة العالم كله. ولعل هذا هو ما دعا أحد الكتاب الفرنسيين أن يكتب كتابا بعنوان «إسرائيل سبب الحرب العالمية الثالثة»، نشر في المجموعة الشهرية «ماذا أعرف؟».

ولكن يبقى مصدر هذا كله وقبل كل شيء، ذلك الصمود الباسل الذي يقفه الشعب العربي الفلسطيني - رغم خذلانه من قبل أمته العربية - في مواجهة هذه الغطرسة الإسرائيلية ومقاومتها بكل الصور السلمية وغير السلمية. إن حق مقاومة الاحتلال هو حق مشروع لا شبهة في ذلك.

الخطوة الأولى - كما ناديت مرارا - أن تتوحد كل الفصائل الفلسطينية في مواجهة هذا العدو الشرس. إن اختلاف الآراء وارد ولكن يأتي بعد مرحلة الانتهاء من التحرير. أما مراحل التحرير فإنها تحتاج إلى صلابة التوحد وقوته.

وحدتكم وصلابتكم وإصراركم على حقكم ستزيد من يقظة العالم وستقرب نهاية ذلك الكيان العنصري البغيض.. وبالله التوفيق.