رسالة من قصر السلام

TT

تثبت السعودية الكيان، أن الرهانات التي وضعتها دائما كانت في المكان الصحيح. السعودية التي أراد لها القدر أن تكون في محيط مختلف، ومأزوم بمشاكله وإحباطاته، تطرح الحلول العملية لمرحلة تتعاطى مع الواقع، وتدرك متطلبات المرحلة. عالم عربي يمر بمرحلة متغيرات هائلة وأوضاع جديدة ووجوه جديدة. منها من يدخل المجال من أجل أجندة قديمة بلغة حديثة، وآخرون انشغلوا بلغة الانتقام لينسوا الحاضر، ويهرب منهم المستقبل.

ترسل الرياض كعادتها رسائلها بهدوء وحزم، وهو هذا ديدن السياسة السعودية، التي ربما اكتسبت هذه الطباع من صفات الشخصية السعودية التي تميل للهدوء أكثر من الصخب، وتنشغل بالنتائج أكثر من التفاصيل. هذه المرة استوعبت السعودية غياب شخصية محورية ومهمة، الأمير نايف بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية، وهو شخصية كتب عنها الكثير، سواء في مجال نجاحاتها في المجال الأمني، أو في إنجازاتها الواسعة على المستويين السياسي والتنموي. ليحسم العاهل السعودي الملك عبد الله مسألة الانتظار بقرار توقعته الأوساط السياسية والشعبية، وهو اختيار الأمير سلمان بن عبد العزيز وليا للعهد وتعيينه نائبا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرا للدفاع.

وربما يستغرب المراقبون السياسيون والمحللون سلاسة انتقال السلطة والاستقرار، خاصة أنها تأتي بعد توقعات وتحليلات من أشخاص يدعون أنهم مختصون في المنطقة، ويتحدثون بإسهاب عن سيناريوهات خطيرة ويضعون تصورات سلبية عند غياب أي شخصية في موقع قيادي، ليأتي الرد بهدوء، وتنتصر الرياض مرة أخرى لأسلوبها المتزن الذي يعتمد على الفعل أكثر من القول. ويتضح في هذه المواقف قوة وصلابة بيت الحكم، وأهمية وجود رجال دولة بمستوى الأمير سلمان لملء الفراغ وإكمال مسيرة التنمية وترسيخ الثوابت السعودية.

مؤسسة الحكم في السعودية لديها رصيد ضخم من التجربة التراكمية، والفهم الكامل لرؤى وتطلعات الناس. والحاكم العادل هو الذي يسمع لهذا الصوت في مختلف وسائله التعبيرية وتكون قراراته صدى لها. في حين أن اختلاف الآراء مسألة طبيعية والتباينات موجودة حتى على مستوى الأسرة الصغيرة، وهناك من يحاول رصد بعض الأصوات هنا وهناك وتضخيمها لإعطاء انطباعات مغايرة للواقع. والانفتاح الإعلامي الذي أحدثته ثورة تقنية المعلومات، رغم بعض السلبيات فيه، فإنه من الجانب الآخر أعطى مناعة لكثير من الناس الذين كانوا يتابعون مواقع وقنوات معينة وتحليلات مختلفة، حينما أدركوا أنه ليس كل ما يقال صحيحا، وأن وراء الأكمة ما وراءها، وأنه في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح.

الحكم يتطلب رؤية أبعد من الواقع المنظور، واستشرافا للمستقبل بعين العقل والمنطق. وهنا تتضح الفروقات، فدول يعيش حكامها بوهم أنهم الواقع والمستقبل. وتكون مساحة نظرهم إلى المساحة الزمانية التي يعيشونا. وبالتالي ينفصلون عن شعوبهم وينتهي بهم الأمر إلى نهايات مأساوية. فزعيم ينتهي هاربا في حفرة، وآخر في أنبوب للصرف الصحي. وآخرون يعيشون نفس الوهم ويمارسون آلة القتل لشعوبهم بكل صلافة. وهم مستعدون لإبادة الآلاف من أبناء شعوبهم من أجل أن يتمسكوا بالسلطة. واقع نراه بأعيننا. التاريخ الذي نقرأه في الكتب نعيشه كواقع. وتجربة المعايشة أقوى لأنها تجسد حركة التاريخ دون رتوش.

مشروع الإصلاح السعودي له متطلبات، والتغيير الاجتماعي يفرض واقعا جديدا، والمرحلة المقبلة لها تحدياتها التي تمس كثيرا من مفاصل المجتمع السعودي. والملك عبد الله يتبنى مشروعا إصلاحيا متدرجا، ولكنه واسع. ويقود إلى نقلة نوعية في واقع البلد ومجتمعه. والأمير سلمان، وهو الذي يعد رجل دولة، وله علاقات دولية واسعة، ويحظى باحترام دولي كبير، يملك رصيدا ضخما من المحبة والثقة بين أبناء شعبه. سيكون عضدا لأخيه في قيادة هذا المشروع. وهو الأمير المثقف الذي ينظر له المثقفون والصحافيون والكتاب العرب على أنه الأقرب لهم، ومجلسه عادة ديوان ثقافي مفتوح تستمع فيه لمختلف الآراء بحرية وشفافية. والأمير سلمان بما عرف عنه من دقة في عمله ومواعيده، وحزم وإنسانية وحكمة وتوازن تجعل السعوديين ينظرون لأميرهم بإعجاب واحترام كبيرين.

ورغم عمل الأمير سلمان في إمارة الرياض لأكثر من نصف قرن، فإنه رقم مهم في صناعة القرار في الدائرة الصغيرة، وهو المستشار المقرب للملوك السابقين. وقريب من الملك عبد الله. وفي الجانب الآخر، ورغم مشاغله، فإنه يخصص جزءا من وقته لتبني الأعمال الخيرية وحضور مناسباتها، وهو القاسم المشترك بين كثير من هذه الجمعيات التي يدعمها ماديا ومعنويا. ويشجع، بل ويحث الميسورين على التبرع لها. وهو المنحى الذي يسير عليه أبناؤه حاليا.

ومن حضر في قصر السلام (الديوان الملكي) في جدة سيجد العفوية بمعناها الحقيقي. تدافع لآلاف الأشخاص ينتظرون فرصتهم لتقديم واجب العزاء والبيعة للأمير سلمان. لم يكن هناك تنظيم، لكنه كما قال أحدهم إنها مشاعر من الصعب تقنينها وإنهم يتفهمون مثل هذه الحالات. لكن المنظر العام يعطي رسالة واضحة بأن التلاحم بين شرائح الشعب تجسده مثل هذه المواقف. وربما من الصعب أن يفهمها مراقب خارجي يتفنن في تصيد السلبيات ويفهم جانبا واحدا من القصة.

الثوابت السعودية راسخة، وهذه نقطة مهمة. فأي تنمية وتحديث دون استقرار سياسي هو مجرد عبث وهدر للمكتسبات. والسعوديون مطالبون بتفهم أهمية المكتسبات التي كانت نتيجة مثابرة وتضحية أجيال. والسعودية مهيأة للانتقال إلى مرحلة جديدة تفرضها التطورات الحاصلة والمتغيرات ووجود قيادة من نسيج هذا المجتمع تقود التطوير برؤية ناضجة تفرض التغيير، ولكنها لا تحرق المراحل. ووجود قيادة بهذه الرؤية والإدراك صمام أمان لدولة اعتادت أن تغرد خارج السرب المحيط بها من مشاكل وقلاقل وأزمات.

القرار الملكي في محتواه وتوقيته من ناحية سرعة إصدار الأوامر، يعطي ملمحا مهما لرؤية ملك يجعل المصلحة العليا لبلاده فوق كل اعتبار. فاختيار الأمير سلمان قابله ارتياح شعبي واسع وتجاوب دولي من مختلف عواصم العالم. في حين كان تعيين الأمير أحمد بن عبد العزيز وزيرا للداخلية ينطبق عليه قول، يعطي القوس لباريها، فهو الأمير الذي كان بجوار شقيقه الأمير نايف لأكثر من ثلاثة عقود اكتسب فيها الخبرة والرؤية الاستراتيجية. وهي الوزارة الأكثر نجاحا عالميا في مقاومة الإرهاب، بل وفي محاربة الفكر بالفكر، وتقويم الشباب المغرر بهم من خلال البرنامج الشهير (المناصحة).

الرسالة التي قالتها الرياض الأسبوع الماضي، إن الدولة السعودية بغض النظر عن الأحداث، وغياب شخصيتين محوريتين (الأمير سلطان والأمير نايف رحمهما الله) في أقل من عام واحد، إلا أنها قادرة بفضل تركيبتها السياسية، ورجالاتها، أن تكون على مستوى الحدث وأن تواجه الموقف بحس عال من المسؤولية. وأن الرصيد الذي لا يمكن أن تتسامح فيه مطلقا هو استقرارها السياسي الذي يظل ورقتها الرابحة عند أي مقارنات مختلفة. السعودية وجه يبث التفاؤل لمستقبل أفضل في محيط يحتاج إلى بصيص الأمل بعدما ملت شعوب المنطقة من زعامات أدمنت الخطابات والنرجسية المفرطة لتكتشف في لحظة أنها كانت غائبة عن الوعي، وعن إدراك نبض الشارع. الدول التي سوف تنتقل إلى مصاف الدول المتقدمة هي التي تخاطب المستقبل بمفردات وتطلعات شعبها. والسعوديون يثبتون أنهم يملكون الإرادة والرغبة، وهناك غد ينتظرهم، فالمستقبل يرحب فقط بمن يعرفون خياراتهم تماما، ويملكون القوة والرؤية والعزيمة.