نايف: الفقيد العظيم الراحل.. وسلمان: الخليفة والعوض

TT

كان الأمير نايف بن عبد العزيز، ولي العهد السعودي السابق، ملء السمع والبصر على المستويات الوطنية والعربية والإسلامية والعالمية. وبغتة رحل عن دنيانا هذه. ولقد بكاه شعبه، وبكاه العرب والمسلمون. وتأثرت بموته أمم أخرى كثيرة.

لماذا؟

لأنه «ركن ركين» من أركان المملكة العربية السعودية، بحكم مسؤولياته الكثيرة المتنوعة، وبمقتضى عقلانيته وحكمته ونبل تعامله مع الآخرين، من وضوح ومصداقية وتواضع ووفاء وإنسانية. ولأن الدولة التي هو أحد قادتها الكبار تتمتع بمكانة كبيرة - جد كبيرة - بين دول العالم: بحكم وزنها الروحي، وثقلها النفطي والاقتصادي. والرجل بدولته وشعبه وأمته.

ولئن عُرف الأمير نايف بأنه «رجل أمن كبير» على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية، فإن هناك آفاقا أخرى مهمة ينبغي أن تعرف له على هذه المستويات نفسها.. ومن هذه الآفاق:

1) شغفه الشديد بالعلم والمعرفة والتقدم التقني في الوسائل والأساليب التطبيقية العصرية.. مثال ذلك: أنه ابتدر فكرة إنشاء جامعة متكاملة للعلوم الأمنية تحمل اسم «جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية»، مقرها الرياض. وهذه الجامعة هي بمثابة هدية منه للمؤسسات الأمنية العربية التي تحتاج إلى تطوير علمي في أدواتها وأساليبها، تطوير يتفوق على ما توصلت إليه أساليب الإجرام من تلون وتنوع وخطورة.

2) عقيدته الراسخة بأن هذه الأمة لن تستقيم مسيرتها إلا إذا مشت في خطى سنة نبيها العظيم محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صدق اعتقاده هذا بإنشاء «جائزة عالمية» تحمل اسم «جائزة نايف العالمية للسنة النبوية والدراسات المعاصرة»، تعنى هذه الجائزة ببحوث السنّة النبوية في شتى محاورها، كما تعنى بـ«الحفز على حفظ الحديث النبوي الشريف» للناشئين، حيث يتسابق فتيان الإسلام وفتياته في هذا المضمار، وينال الفائزون منهم جوائز مالية جزيلة، يضم إلى ذلك الدراسات الإسلامية المعاصرة المرتبطة بالسنة النبوية في مواضيعها وقضاياها المختلفة. وهذه الجائزة هي بمثابة هدية منه إلى العالم الإسلامي: خاصته وعامته.

3) إيمانه القوي بـ«العمل الخيري والإنساني» على كل صعيد، بما في ذلك الصعيد الإنساني العالمي.. وتقديرا لعمله الإنساني الصالح هذا، مُنح - رحمه الله - «جائزة التميز للأعمال الإنسانية» لعام 2009 من الكونغرس الطبي في بودابست.. وكان من حيثيات منحه هذه الجائزة أن هذا الكونغرس يقدر عاليا الدور الإنساني الذي يقوم به الأمير نايف في الإشراف على اللجان والحملات الإغاثية والإنسانية في المملكة العربية السعودية.. كما مُنح - بلل الله بالرحمة ثراه - جائزة «المانح المتميز» للأونروا من وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى.

وهذه الأعمال الصالحة على المستويات العربية والإسلامية والعالمية هي من الآثار الباقية له - إن شاء الله - بعد موته، رحمه الله: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ».

رحم الله نايف بن عبد العزيز، وأسكنه أعالي جناته.

ولئن كان موت هذا الرجل الكبير فاجعة نزلت علينا كالصاعقة، فإن ما عوضنا عن فقده مجيء شقيقه الأمير سلمان بن عبد العزيز خليفة له في ولاية العهد السعودي.. وإنا لنحمد للعاهل السعودي الملك عبد بن عبد العزيز مسارعته إلى اختيار أخيه سلمان وليا للعهد ونائبا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرا للدفاع. فهو اختيار قد سكب الطمأنينة في نفوس الشعب السعودي على حاضر البلاد ومستقبلها بتوفيق الله وعونه.

إن الملك عبد الله بن عبد العزيز يعرف أقدار الرجال، ويعرف كفاءتهم، ولا سيما إخوانه الأقربون.

وبهذه المعرفة الأمينة اختار سلمان وليا للعهد وعضدا له ومعينا - أي معين، خاصة في ظروف إقليمية وعالمية تتطلب وجود رجال كبار يعاونونه في قيادة السفينة - بهدوء وحكمة ومهارة - في بحر لجي ذي أمواج عاصفة عاتية.

لقد كان ولي العهد الجديد الأمير سلمان بن عبد العزيز أميرا لمنطقة الرياض على مدى نصف قرن تقريبا، وهي إمارة في حجم الدولة من حيث حجم السكان، وشبكة الإدارات الحكومية المتنوعة.. يضاف إلى ذلك أن الرياض هي عاصمة المملكة العربية السعودية، وقد نجح الأمير سلمان في مهمته كحاكم إداري للرياض، في تصريف شؤون الإمارة بهمة ومثابرة ويقظة وحسن تدبير.. ونجح في التعامل مع أهله وشعبه المواطنين، حيث نشأت بينه وبينهم علاقة وثقى وحميمة داخل قصر الحكم وخارجه، إذ كان الأمير سلمان حاضرا في مناسبات المجتمع المختلفة.

وحين كان هذا الأمير الكبير مستغرقا في شؤون إماراته: أتراه كان بعيدا عن «ذروة الدولة»؟

لا.. لا.. بل كان دوما في ذروة سنام الحكم وصناعة القرار: بالاهتمام والرأي والشورى والتكليفات الخاصة، التي يعرف رأس الدولة أن سلمان عليها قدير، وبها جدير.

إذا ما راية رُفعت لمجد

تلقاها (عرابة) باليمين

إن من يعرف الأمير سلمان يدرك أنه رجل قد خُلق للحكم ووجد لأداء المسؤوليات الكبيرة.

أ) يعرف ذلك من خلال يقظته المستمرة، فهو - في ليل أو نهار - حاضر الذهن.. حاضر المعلومة.. حاضر الرأي.. حاضر الموقف.

ب) ويعرف ذلك من خلال حرصه الشديد على الشورى المتنوعة.. مع الاحتفاظ اليقظ الذكي بحقه في الترجيح والبت اللذين هما من أخص خصائص الحاكم الحازم الناجح، فالحزم - عند جمهرة من علماء السياسة الشرعية - هو قوام هذه السياسة.

ج) ويعرف ذلك من خلال حرصه الشديد على الأسرة المالكة، والغيرة البالغة على تماسكها في السراء والضراء، وهو حرص مقترن - بطبيعة الحال - بحرصه على قوة الدولة وسلامتها.

د) ويعرف ذلك من خلال فطنته القوية إلى «الوحدة الوطنية» بنسيجها الاجتماعي.. وتآلفها المناطقي.. وعراها الإدارية والسياسية.

هـ) ويعرف ذلك من خلال «فكره المتوازن» تجاه السياسة الخارجية. فالشأن الوطني - على أهميته - لا يشغله بالكلية عن الحضور الفاعل في الشؤون الإقليمية والدولية.. وهذا من صفات السياسي الناجح «الذي يعيش في عصرنا هذا بوجه خاص».. فمهما حصل اجتهاد سياسي وأمني في بناء الوطن وتحصينه، فإن التداخل العالمي المعاصر بين الدول قد يتسبب في هبوب عواصف تؤثر سلبا في هذا الوطن المحصن: في هذه الصورة أو تلك.. ولذا كان لا بد، بمفهوم الأمن الوطني الشامل المعاصر، أن يكون الحضور في الشأن الخارجي قويا وفاعلا وجامعا للإيجابيات، طارحا للسلبيات.. وكذلك يفعل ولي العهد السعودي الأمير سلمان بن عبد العزيز الذي ندعو الله جل ثناؤه أن يعينه على مسؤولياته الكبيرة، ومهامه الجليلة، وأن يحقق به للبلاد والعباد ما حقق مثله للحكام الصالحين، والقادة الخيرين في ظل قيادة الرجل الذي اختار فأحسن الاختيار وهو الملك عبد الله بن عبد العزيز.

والدعاء بالرحمة مبذول للوالد المؤسس الملك عبد العزيز - رحمه الله - الذي أنجب هؤلاء الرجال القادة.. فما هو أعظم ما يتركه الرجال العظام من بعدهم؟ لعله التأسيس.. لعله النهضة والبناء.. لعله الوحدة الوطنية.. لعله المنهج الواضح في قيادة الدولة المجتمع.. كل ذلك مهم بلا ريب، بيد أن أعظم مواريث القادة العظام هو الرجال القادة الذين يحافظون على الإرث الحضاري ويطورونه ويبنون عليه في وفاء وصدق وتصميم.