مصر: إنقاذ ما يمكن إنقاذه

TT

لم أجد في القاموس سوى «إنقاذ ما يمكن إنقاذه» لتلخيص فكرة المقال. بعد الانهيار تجد بين الأنقاض ما تلتقطه السواعد البشرية لإعادة البناء، والتشييد حرفة ابتكرها وأتقنها المصريون لسبعة آلاف عام تحت بصر أبي الهول.

بين أنقاض النظام ستجد أربعة عقود من السلام، وحتى مع فساد الإدارة والنهب والسرقات، ستجد أرباحا مذهلة مقارنة بخسائر العهد الناصري الذي أدى ولع الثوار به إلى المأزق الذي تعيشه مصر اليوم. السلام وفر للخزانة ما بين 90 و110 مليارات دولار ميزانية التسليح، وقرابة 60 مليارا توفير 40 سنة ميزانية إصلاح الدمار، كحرب الاستنزاف التي أدت إلى استنزاف اقتصاد مدن القنال وخسارة دخل قناة السويس، الذي بلغ عشرات المليارات منذ أن أعاد السادات تشغيلها، و65 مليارا من الدعم الأميركي المباشر. مليارات تدفقت من استثمارات خارجية وتجارة وسياحة كانت مصر ستخسرها لولا السلام.

وهناك مكسب لا يقدر بثمن، هو الحفاظ على آلاف الأرواح المصرية التي كانت تزهق في حروب لمصالح غير مصرية.

كان استمرار الحروب أداة في يد الديكتاتورية استخدمتها البروباغندا الناصرية عقب كارثة انقلاب 1952 واستمرت في عهدي السادات ومبارك، لشغل الشعب بوهم المؤامرة من العالم الغربي لصرف الانتباه عن الأولويات الشعبية - وقلدتها الديكتاتوريات العربية - إلى جانب شعار تحرير فلسطين (وظل الشعار مشتعلا حتى بعد توقيع الفلسطينيين أنفسهم اتفاقيات سلام 1993)، لصرف طاقات الشعب عن التنمية والإنتاج ومشاريع الإصلاح السياسي الديمقراطي. هذا الوضع من استمرار العداوة للعالم المتحضر، وللجار الإسرائيلي حتى بعد إقامة علاقات دبلوماسية وتبادل تجاري، أدى إلى نمو المؤسسة العسكرية المصرية لتصبح أقوى مؤسسات الدولة.

ولعل الجانب الإيجابي من تاريخ سلبيات ديكتاتورية 1952، هو ما تقدمه مفارقات القدر الساخرة بأن المؤسسة العسكرية المصرية بضخامتها وإمكاناتها واحترام الغالبية الساحقة من المواطنين البسطاء لها، هي منقذ مصر من انهيار الدولة وتفككها إلى ما هو أسوأ من إيران لتصبح كالصومال وأفغانستان.

هذا الخطر التاريخي الذي يقلق بال العقلاء حول العالم، لا يقلق جماعة الإخوان، بل يتمناه منظرو أفكارهم وربما يسعون لتحقيقه وفق آيديولوجية الجماعة التي رسمها مؤسسها حسن البنا، كهدف نهائي. فقد أسسها بعد أربع سنوات فقط من انهيار الخلافة العثمانية لتكون بديلا عنها. وسمعنا من مرشحي وزعماء الجماعة أن عاصمة الخلافة ستكون القدس وليس القاهرة أو الإسكندرية. فالإخوان كتنظيم يتفرع عنه تنظيمات بأسماء مختلفة كالتنظيم السري، والتنظيم الأممي، وحماس في غزة، و«القاعدة» وأشباهها، يرون تفكيك الدولة القومية التي لا يعترفون بحدودها، مرحلة تكتيكية ضرورية مثل إلغاء القوانين «الوضعية» والأنظمة الديمقراطية «المستوردة من الغرب الكافر»، كبداية للاستراتيجية الأكبر لإنشاء الخلافة الإسلامية العالمية على أنقاض الدولة القومية.

الملاحظ توقيت دعوة أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة الإرهابي للمسلمين لانتخاب مرشح الإخوان (مرسي) وتوجيهاته لكل الخلايا والتنظيمات التابعة للعمل على إنجاحه عقب إعلان المرشح المدني شفيق التزامه بالديمقراطية والقانون وتأكيده أن مهمة جيش مصر هي الدفاع عن مصر فقط وليس خوض حروب الآخرين.

ومن هنا فالمحافظة على حدود مصر التي لم تتغير منذ سبعة آلاف عام - والمؤسسة الوحيدة القادرة على ذلك اليوم هي الجيش - يجب أن تكون الهدف الأول لكل المصريين. فالحفاظ على شكل الدولة وسلامة حدودها يشكل عائقا كبيرا أمام استراتيجية الإخوان التي رسمت قبل 80 عاما. فتفكيك الدولة المصرية مقابل إشعال حرب كبيرة في المنطقة وجر مصر إلى صدام مع إسرائيل (رغم ما أبداه الإسرائيليون من تسامح وسعة صدر غير معهودة منهم أمام خروقات واعتداءات مقابل المحافظة على معاهدة السلام مع مصر)، هو مرحلة تكتيكية مرغوبة من الجماعة.

وجملة الخيانة العظمى «طز في مصر» لم تكن زلة لسان أو نرفزة من المرشد من أسئلة مذيع التلفزيون عن التزام الجماعة تجاه الوطن، مصر، بل عبرت عما يجول بخاطر الرجل وإشارة طمأنة لأتباعه حول العالم، خاصة حماس، لتكون ترجمتها «صبرا، قريبا سنكون في السلطة وسنعلن الحرب التي تريدونها، وطز في سلامة مصر، وفي المقابل عاونونا من أجل ذلك».

في الوقت نفسه وجد الإخوان في قوى تصادمت معها في الماضي القريب كالبعث والناصريين والقوميين العرب، شريكا يسعى من أجل وضع خطة المرحلة التكتيكية موضع التطبيق بجر مصر إلى حرب مع إسرائيل.

هل هي مصادفة أن يتضاعف تمويل صحف وفضائيات خطاب معاداة إسرائيل منذ اندلاع ثورات 2011، وأنشئ الجديد منها على صحافيين راديكاليين فلسطينيين من التنظيمات الراديكالية الفلسطينية التي ازدهرت وترعرعت في الفترة الناصرية، ودعمتها ديكتاتوريات كالقذافي وصدام ومافيا الأسد بالتكنولوجيا والمال وابتزت الحكومات العربية والطيبين لدعم الحسابات السويسرية لمليونيرات ثوار تحرير فلسطين (الذين لم يحرروا بوصة واحدة من أرضها) مقابل إشعال رأي عام في مصر وبين جيرانها من أجل جرها إلى حرب جديدة مع إسرائيل، تزيد من توزيع صحفهم وعدد مشاهدي فضائياتهم، وبالطبع أرباحهم المالية؟!

ولذا، فأهم واجب وطني مصري اليوم هو دعم المؤسسة العسكرية المصرية بكل أخطائها، فجميع الأطراف في مصر ارتكبت الأخطاء الكثيرة، وكان أفدح الأخطاء وأكثرها من نصيب ثوار الميدان الذين يستغلهم الإخوان في مواجهات مع المؤسسة العسكرية الوطنية المصرية. فكيف يمكن لعاقل أن يسمي مرشح الإخوان بمرشح الثورة؟! كيف يكون مرشح مرجعيته ظلام القرون الوسطى ورفض الديمقراطية وحرية الفرد في الاختيار مرشحا لثورة أساسها المطالبة بحقوق الإنسان والتقدم وحرية المواطن في الاختيار؟!

طبعا العسكر ليسوا مؤهلين للحكم أو مدربين عليه. وطبيعتهم إطاعة الأوامر من دون مناقشة، تضعهم في آخر طابور الديمقراطيين والليبراليين، وإن كانوا يؤمنون بحكم القانون ويطيعونه طاعة عمياء، وهذا بيت القصيد. فمصر اليوم تحتاج إلى حكم القانون وفرضه وتأمين سلامة الأمة المصرية وحدودها ومواردها كأهم هدف. وكما كررنا في هذه الصفحة، العبرة من إنجازات أتاتورك. فلم يكن بطبيعته ديمقراطيا أو ليبراليا، لكنه كان صاحب رؤية ومشروع دعمته فيه المؤسسة العسكرية التركية لفرض القانون واحترامه ورسم دستور تحميه المؤسسة العسكرية ويتساوى فيه الجميع ولا يفرض أحد وصاية بدعوى احتكاره للقانون الإلهي ورفضه القانون الوضعي. فقط عندما فرض الاحترام وسيادة القانون تطورت الديمقراطية التركية، ونما معها الاقتصاد وعادت قوة عظمى إقليمية.

فليلتف المصريون حول جيشهم الذي تولى الدفاع عن حدود الأمة المصرية منذ عهد أحمس إلى اليوم، ولا ينزلقوا إلى فخ استدراج الجيش إلى حرب لا علاقة لها بمصالح مصر، بل تضر أشد الضرر بها وبأمن شعبها.