إعادة زيارة إلى الجارة!

TT

بعد عام من الآن سوف يكون في إيران رئيس سابع للجمهورية الإسلامية الإيرانية، فخلال فترة زمنية تتعدى الثلاثين عاما بقليل - هي عمر الثورة - تعاقب على المنصب ستة أشخاص. بدايات التغيير كانت سريعة، حيث خرج من الحكم من جاء إليه سواء كرئيس وزراء أو رئيس جمهورية بعد التعديل الدستوري، بسبب التدفق الثوري العصيب في عروق الثورة والصراع الذي صاحب تفجرها، ثم استقر الأمر، بعض من جاء إلى المنصب عاد إليه من جديد، إلا أن الجميع (عدا المرشد الحالي بسبب وضعه المعروف) ذهب إما إلى المنفى وإما إلى التهميش، أي الذهاب إلى التقاعد السلبي مهاجما ومهمشا. يبدو أن الخوف من عقدة التهميش في المستقبل يحاربها الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد بما يستطيع من أدوات متوفرة لديه حاليا، ويتحدث البعض في الداخل الإيراني أن نجاد معجب بطريقة التبادل بين بوتين وميدفيديف، ويحاول استنساخها، إلا أن قراءة السائد الذي تم في الساحة الإيرانية حتى الآن يقود إلى القول إن التهميش هو في الغالب نصيبه في النهاية.

الوضع الإيراني بالغ التعقيد لأسباب تاريخية وعقائدية وثقافية، ويخطئ العربي إن هو خلط بين «السياسة الإيرانية» والشعب الإيراني، فذلك قد يكون خطأ مميتا في التعامل ورسم الاستراتيجيات، خاصة من المجتمعات القريبة إلى إيران. أحد مفاتيح فهم الهوية الإيرانية أنها معتزة بتاريخها، تبحث في العصر الحديث عن إحياء لعصر ذهبي مضى، وهي بذلك تشبه الهوية العربية نوعا ما. إن البحث عن عناصر النجابة في التاريخ من أجل إعادتها دأب الزعامات الجديدة في المنطقة، وهي فكرة تغري قطاعات واسعة من الجمهور بقبولها ولكن تنفيذها أو بعضها، على أرض الواقع، قد يأخذ سيناريو تصالحيا عقلانيا، وقد يأخذ سيناريو تصادميا وعدميا. خلال الفترة الثانية من حكم علي أكبر هاشمي رفسنجاني، وفترتي حكم محمد خاتمي كان الاتجاه تصالحيا، مع الاحتفاظ بفكرة إحياء الهوية الإيرانية ويقظتها، بينما فترة محمود أحمدي نجاد انزلقت إلى التصادم، خاصة بعد انتخابات الرئاسة الثانية، وكان الصدام على مستويين: الداخلي، الذي أخذ طريق التصفيات للخصوم، والخارجي الذي أخذ شكل التحدي للقوى الغربية، ومن يعتقد أنهم محازبوها في دول الشرق الأوسط، مع انحياز كامل لدول وجماعات في الشرق العربي ترفع خطابا معاديا للغرب.

إن مكون الاعتزاز بالهوية الوطنية الإيرانية يغذى بشكل كبير بالنجاحات العلمية التي يحققها علماء إيران، بسبب الدعم السياسي والمالي الذي يحصلون عليه من الدولة، فمن المعروف على صعيد المسابقات العالمية، أن إيران تحقق في مجال الرياضيات والعلوم الطبيعية البحتة والتطبيقية نجاحات لافتة، وأيضا نجاحات على الأرض خاصة في المشروع النووي، بالإضافة إلى المشروع التقني والحربي منه على وجه الخصوص. هذا الإنجاز العلمي يحقق لقطاعات واسعة من الشعوب الإيرانية رضاء قوميا يسهل على السياسيين الاستفادة منه وتبرير الوضع الاقتصادي الخانق لغالبية المواطنين في إيران.

انتكاسة الحركات الثورية في العالم الثالث، نتيجة التدخلات الخارجية، أو نتيجة تشجيع القوى الداخلية لمناهضة السلطة الثورية، هي عامل مهم يضاف إلى التخوف المرضي في السياسة الإيرانية، فالخبرة المباشرة بإفشال حركة مصدق في بداية الخمسينات من قبل الجهاز السري الأميركي، ثم إفشال تجربة عبد الناصر - كما يقرأها الإيرانيون - من الخارج، وفشل عدد من حركات التحرير في أميركا اللاتينية بسبب التدخلات، فاقم التخوف الإيراني، وجعله يفسر أي تعبير خلافي ضد سياساته، على أن المقصود منه هو الإطاحة بالنظام. إلا أنه من منظور آخر فإن القوى السياسية الإيرانية المنضوية تحت المشروع الإسلامي لها اجتهادات، بعضها مختلف كليا مع اجتهادات البعض الآخر في السياسة وفي الاقتصاد وفي السياسة الخارجية ومتعارض معها. كما أن هناك معارضة من خارج تيار المظلة الإسلامية، وجميعها - خاصة بعد حركة الخضر في عام 2009 وما بعدها - أصيبت بضربات قاتلة، سواء بإرسال قادتها إلى السجون أو إلى المنافي أو إلى القبور أو لاذت بالصمت المغلف بكثير من الغضب، مع التوسع في حل الأحزاب المعارضة ومنع وسائل الإعلام، وغلق الصحف.

مع ذلك فإن مجتمعا حيويا كمثل المجتمع الإيراني ما زال يفرز معارضته، وسوف تتشكل المعارضة السلمية، من تيار عريض في المستقبل، خاصة إذا توافقت أطرافها على دعم مرشح للرئاسة لخوض الانتخابات في يونيو (حزيران) القادم في مقابل من يدعمه نجاد.

الكثير من النقد بدأ يظهر لطريقة وفلسفة محمود أحمدي نجاد في الحكم، ومن أشهر التعبيرات السلبية التي قيلت بحقه، ما قاله رفسنجاني من أن هناك «شخصنة للحكم» في إيران، وبالتالي تراخ في بناء المؤسسات اعتمادا على الأشخاص، كما أن نجاد هو أول رئيس جمهورية يساءل أمام البرلمان، وإن مزجت إجاباته وقتها عن الأسئلة البرلمانية بالكثير من السخرية! كما تعاني إيران أيضا من عدم الالتفات إلى التعددية العرقية والإثنية والطائفية، بما فيها من حقوق للأكراد والعرب والبلوش والتركمان والسنة والآذاريين، ومع تصور حضاري مقبول وضعه الدستور الإيراني لمراعاة تلك الحقوق، إلا أن الواقع الملموس لم يحقق لتلك الأقليات أي مزايا نص عليها الدستور، فهي مضطهدة، بالإضافة إلى كونها محاصرة.

السخط الداخلي في إيران ملاحظ، والمعارضة الخارجية نشطة. معظم السخط الداخلي منصب على الفشل في إدارة الاقتصاد، فقد توجه نجاد وإدارته إلى فكرة التوزيع خاصة على الفقراء من أجل الفوز بتأييدهم، وأهمل الإنتاج كما أهمل العالم الخارجي لكونه معاديا له، إلا أن ذلك الإهمال غير مستساغ من بقايا الطبقة الوسطى التي تأمل بالتغيير، كما أن الشح الاقتصادي يضغط على عصب الدولة الإيرانية نتيجة المقاطعة الدولية ويربكها.

هناك مخاطرة كبيرة في غضون العام القادم، وهي أن يقوم طرف إقليمي أو دولي أو مشترك بالهجوم على إيران! أي نوع من الهجوم سوف يقوي الوضع القائم، لأنه يقترب من مس عناصر الفخر القومي، وأي أوهام بأن الهجوم على إيران قد يطيح بالنظام هي أضغاث أحلام. الهجوم العسكري لا يستطيع أن يغير النظام، وبالتالي فإن نتائجه ستكون كارثية على المنطقة، أما استدراج إيران في مكان ما لتوريطها بعمل عدواني في الجوار، يبرر للتدخل الدولي، فهو سيناريو ممكن، ولكنه مستبعد، رغم أن البعض في إيران قد تفتحت شهيته لمثل هذا العمل، كما قال سفير إيران في باريس الأسبوع الماضي، إنه لو أرادت إيران الدخول إلى البحرين لتم ذلك في غضون ساعات!

العرب، سواء القوى المباشرة في الدول المعنية أو على صعيد التفكير الاستراتيجي العربي، انساق بعضهم إلى لعبة «الطائفية» وتأجيجها في مخالفة لسياسات إيران، بدلا من الخيار الآخر، وهو «القومية»، سواء في العراق أو سوريا أو الخليج. لعبة الطائفية، بمعنى زج الشيعة العرب إلى البلاط الإيراني، لعبة خطرة وليست من الذكاء بمكان في الوقت نفسه، فالشيعة والسنة هم عرب قبل كل شيء، مما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرقهم، والاحتواء العروبي هو الأكثر قربا للمنطق لإبعاد بعض الفئات العربية من الوقوع في شرك المصالح الإيرانية تحت غطاء المذهب، من هو عربي فهو عربي سواء أكان شيعيا أم سنيا أم مسيحيا أم غير ذلك. بسبب انحسار هذا الخطاب، بدأ البعض يتكسب من الخطاب التهميشي المثير للنعرات الطائفية.

إن الحذاقة السياسية تفرض التعامل مع إيران على أسس وقواعد، منها احترام الاجتهادات السياسية المتبادلة، والتوافق على المشترك، وعزل مصالح النظام عن التخفي خلف الطائفية، وإعلاء العلاقات الإنسانية الشعبية الإيجابية التي تقاربت طوال التاريخ من خلال تواصل إنساني لبناء الثقة وتقليل المخاطر على الجانبين.

آخر الكلام:

تعيين سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز وليا للعهد في المملكة العربية السعودية خطوة رسخت التجديد والاستمرار في آن واحد لدى الشقيقة المملكة العربية السعودية. فللرجل تاريخ حافل من العمل العام الذي خدم به وطنه وأمته، كما أنه من رجالات السياسة العربية بعيدي النظر، وعلى يديه تتمثل أحلام جيل كامل في التوق إلى مواصلة التنمية والنهوض بالدولة الحديثة.