نكد الدنيا ينزل على المصريين

TT

المصطلح صكه المتنبي أعظم شعراء العربية، ولا أجد وصفا آخر أصف به أحوالنا في مصر هذه الأيام، إنه ليس ذلك النكد عابر المحيطات والقارات، الذي يمكن الإفلات منه بقوة النفس أو بقدر عال من الإيمان بالقضاء والقدر، ولا هو قابل للإزالة بمساحيق الزمن الخاصة بغسل الأحزان، إنه تلك الدرجة العليا من الاكتئاب التي لا تعرف فيها رأسك من قدميك، ولا أمسك من غدك.

كل المشاهد حولك مفرحة ولا تبعث فيك إلا الأحزان، الحمد لله، انتخابات الرئاسة تمر بسلام، الكاميرات تتجول بين مقار اللجان الانتخابية، ثم مشهد جميل، عدد من الأمهات الريفيات اصطحبن معهن أطفالهن، يقول مثقف طيب القلب حسن النية، في الغالب هو أنا: يا له من مشهد جميل.. لن ينسى الأطفال هذا المشهد الذي يزرع الديمقراطية بداخلهم.

وبعد ذلك بيومين يأتينا الخبر اليقين: هؤلاء الأطفال لهم مهمة محددة داخل اللجنة، هي مراقبة علامة صح التي ستضعها الناخبة، أمام أي رمز وضعتها؟ هو مكلف بذلك من أحد شياطين الديمقراطية خارج اللجنة، وبناء عليه تحصل المرأة على المبلغ المتفق عليه (اقرأ د. أسامة الغزالي حرب، الأهرام، 21 يونيو /حزيران 2012) هكذا تم بعبقرية شريرة نادرة إيجاد طريقة لا تثير شبهات أحد للتأكد من أن الناخبة صوتت للمرشح المطلوب. بعد ذلك بدأت تصلنا الأخبار عن أنه تم تهديد الأقباط في أماكن كثيرة من صعيد مصر لعدم الخروج من بيوتهم والذهاب إلى لجان التصويت لمنعهم من إعطاء أصواتهم للفريق شفيق ممثل الدولة المدنية.. سلّم لي على الديمقراطية، وعلى أي حال لجنة الانتخابات ما زالت حتى كتابة هذا المقال تدرس الخروقات والانتهاكات التي حدثت من الطرفين، وهو ما أخر ظهور النتيجة حتى الآن.

إذا جاز لي أن أستخدم كلمة «نحن» فأنا أقول نحن المصريين نشعر بالخوف ليس مما حدث ولكن مما قد يحدث، لقد سارعت جماعة الإخوان المصريين وعقدت مؤتمرا صحافيا فجر الاثنين الماضي، أعلنت فيه أن مرشحها قد فاز في انتخابات الرئاسة، بعد ذلك بدأت التهديدات «إوعوا حد فيكم يقول كلام تاني.. لو حصل، حا نقلبها لكم ضلمة» وبعدها اندفعت الآلاف لتستقر في ميدان التحرير. وقد حشدت وشحنت نفسها لإظهار قدر من الشراسة الديمقراطية يخيف رجال المؤسسة العسكرية ويخيف أيضا أعضاء اللجنة الانتخابية ويخيفنا نحن أيضا فنسلم لهم البلاد والعباد لكي يقودوها بطريقة ديمقراطية من ذلك النوع الذي لم يعرفه أحد من قبل. بالتأكيد هم يطلبون من المصريين ومن المؤسسة العسكرية السمع والطاعة ناسين أن التعامل مع أعضاء التنظيم يختلف تماما عن التعامل مع أبناء الوطن.

هكذا وضعنا في مصر بين المطرقة والسندان، وقفنا في مفترق طرق عاجزين عن اتخاذ الطريق الصحيح الذي يضمن سلامتنا ولم يعد لدينا سوى الهواجس والخوف من المجهول. وأخطر ما في هذا المجهول هو أنه عنيف ودموي في كل الأحوال، فعندما يستولي عشق السلطة إلى هذا الحد على جماعة ما فلا بد عندما تحرم منها أن تندفع بوعي أو بغير وعي إلى العنف. مستندين إلى عملية جربوها وكانت ناجحة طول الوقت وهي ما يسمونه الضغط، وأنا أرى أنه يجب على الثوار وعلى أعضاء جماعة الإخوان بالتحديد أن يدركوا أن ما يسمونه ضغطا في أحيان كثيرة هو عدوان صريح وواضح على الشعب المصري. هذا الجو المحموم العاصف، ستضيع فيه الحقائق ولا يزدهر فيه إلا القبح والعنف، وعلى قيادات جماعة الإخوان من الشباب أن تستمع فقط إلى الأصوات القادمة من ضمائرها كأبناء لهذا الشعب. عليهم أيضا مراجعة فهمهم لطبيعة الصراع بين الجماعة والمؤسسة العسكرية في مصر، هو ليس ذلك الصراع التقليدي على السلطة، ضباط الجيش المصري ليسوا في حاجة ولا يريدون أن يحكموا مصر، هم يعرفون جيدا أن طبيعة العصر تأبى ذلك. وجماعة الإخوان تخشى العسكرية المصرية لأسباب تاريخية لأنها تعتبرها تابعة لنفس السلطة التي دخلت معها من قبل في حرب ضروس، الواقع أن المؤسسة العسكرية لم تكن تابعة للنظام القديم كمؤسسة فساد سياسي وهو ما يحتم أن تقع في خصومة مع بعض الاتجاهات السياسية وأهمها جماعة الإخوان، لا بد من تذكير الجميع بأن المؤسسة العسكرية منذ اللحظة الأولى وقفت مع ثورة الشباب.

علينا استرجاع عدة مشاهد من التاريخ القريب ليس في مصر ولكن في المنطقة، في إيران وعندما كانت الثورة التي شاركت فيها كل الاتجاهات السياسية، على وشك القضاء على النظام، جاء جنرال أميركي لينصح الجيش بالبقاء على الحياد بين القصر والشارع، وهذا هو ما فعله العسكريون هناك بل إن عددا كبيرا من جنرالاته أظهروا تأييدا كبيرا للخميني، ورد عليهم الخميني - وهو مرشد عام أيضا - بالقضاء عليهم وعلى الجيش نفسه وكان من أقوى جيوش العالم وليس المنطقة فقط، ثم تفرغ للقضاء على بقية الثوار والاتجاهات السياسية بما فيهم حتى تلامذته.

لنترك إيران لنذهب إلى السودان على بعد خطوات من مصر، ماذا فعل الحكم الديني السياسي بالجيش السوداني؟ أدخله في مغامرات وحروب فاشلة انتهت بتقسيم البلد إلى بلدين. هذه هي خبرة العسكريين في الشرق الأوسط وفي البلاد العربية مع المؤسسة الدينية عندما تصل إلى الحكم.. أليس من الطبيعي أن يحرص العسكريون في مصر على التعامل معكم بحذر؟ من أطرف أمثال الشعب المصري ذلك المثل الذي يقول: نام لما أدبحك.. فقال له ده شيء يطيّر النوم.

لا تنتظروا ولا تطلبوا من المؤسسة العسكرية المصرية أن تنام، فهذا الساهر على حماية حدوده عليه أن ينشغل أيضا بحماية نفسه. الصراع السياسي مع المؤسسة العسكرية أمر ينطوي على حماقة وبلاهة ولا يمكن فهم أسبابه إلا بوصفها من عناصر النجومية أو هو درجة عليا من الغباء عائد إلى المراهقة السياسية والعجز عن تحمل المسؤولية.

لا تجعلوا الأمور تصل مع المؤسسة العسكرية إلى درجة العداء، فعندما تصل الأمور إلى هذه الدرجة أنتم توقظون بداخلهم ما تعلموه في ميدان القتال وهو «تدمير قوات العدو لفرض شروط السلام عليه» دعونا نفرض شروط السلام على بعضنا البعض من غير عدوان ومن غير أفكار عنيفة ومن غير تهديد أو وعيد.

ليس مطلوبا منا أن نصدق أنكم حزب سياسي بعد أن عجزتم في تعاملكم معنا عن استخدام مفردات السياسة، المطلوب فقط - وأعترف أنه أمر صعب للغاية - أن تصدقوا أنتم أنكم حزب سياسي.