دمشق ـ أنقرة على بوابة تصعيد عسكري!

TT

بغض النظر عن أي تفاصيل في موضوع إسقاط القوات السورية للطائرة الحربية التركية بالقرب من اللاذقية على الساحل السوري، فإن الحادث يضع البلدين على بوابة تصعيد عسكري، لم يسبق للبلدين أن دخلا في حدوده منذ الأزمة الساخنة في التسعينات، يوم هدد الأتراك باجتياح الأراضي السورية وصولا إلى دمشق نتيجة علاقة دمشق مع مسلحي حزب العمال الكردستاني (PKK)، الأمر الذي مهد لتسوية الخلاف، وأدخل علاقات البلدين في تحسن لاحق استمر سنوات قبل أن تتردى على خلفية الأزمة السورية الراهنة.

ويستمد التصعيد العسكري السوري - التركي الحالي أساسه من ثلاثة أسباب؛ أول هذه الأسباب، واقع الاختلاف السياسي واسع الهوة بين الجانبين في الموقف من الأزمة السورية وسبل حلها، ومختصره، حل سياسي كما ترغب تركيا وعسكري أمني كما تريده دمشق، وترتب على هذا الاختلاف ذهاب كل طرف باتجاه اصطفافات سياسية، يتعلق بعضها بعناصر ومكونات داخلية سورية - تركية ومنها علاقة تركيا بالمعارضة السورية، والتي ردت عليها دمشق بتعزيز علاقتها مع المعارضة التركية، والأهم منها اندراج الطرفين في اصطفافات إقليمية ودولية حادة حول الأزمة في سوريا، والتي لا يستبعد دخولها القريب في عمليات شد وتصادم عسكري.

والسبب الثاني الذي يجعل من حادثة الطائرة التركية بوابة لتصعيد بين سوريا وتركيا، يتمثل في المواجهات التركية - السورية غير المباشرة الحاصلة عبر الحدود، والتي يبدو حدها التركي في تأمين ملاذ آمن ومرور لسوريين وقيادات وعناصر من الجيش السوري الحر في بعض المناطق التركية، وهو أمر يترافق مع اتهامات سورية معلنة لأنقرة بتمرير أسلحة ومقاتلين إلى الأراضي السورية، يقومون بالاشتباك مع القوات العسكرية - الأمنية السورية وخاصة في ريف إدلب المتاخم للحدود التركية، فيما يتمثل الحد السوري في دعم حزب العمال الكردستاني (PKK) وعملياته العسكرية في جنوب شرق الأناضول، وقد لوحظ تطور مهم على عدد ونوعية تلك العمليات في تركيا، وسط اتهامات أنقرة لدمشق بدعم «المتمردين» الأتراك.

أما السبب الثالث، فهو تكرار الحوادث العسكرية عبر الحدود، والتي رصد الأتراك منها حادثتين خطيرتين قبل أن تحصل الحادثة الأخيرة. كانت الأولى عملية إطلاق نار سورية عبر الحدود، أصابت لاجئين سوريين في معسكرات اللجوء التركية، وأوقعت قتلى وجرحى، ثم جرى إطلاق نار وإصابة مروحية زراعية، كانت تقوم بأعمال إطفاء حرائق في الأراضي التركية، ثم جاءت عملية إسقاط طائرة F4 العسكرية الأخيرة لتتوج هذا النسق من الحوادث العسكرية.

وإذا كانت هذه الأسباب كفيلة بوضع تركيا وسوريا على بوابة تصعيد عسكري، فإن ثمة بيئة إقليمية ودولية، تعزز حدوث ذلك. ففي مواجهة انسداد حل أزمة سوريا حلا سياسيا، فإن التوجه إلى خيارات الحل العسكري يتزايد، وبطبيعة الحال، فإن حضور الدول المحيطة في خيارات الحل العسكري أمر مؤكد، ليس بسبب رغباتها الذاتية في إسقاط وتغيير النظام، وهو أمر قد يكون قائما، إنما بفعل ما يمكن أن تتمخض عنه الأزمة وتداعياته على الدول المحيطة، ولها جميعا روابط سياسية وديموغرافية مع الداخل السوري الذي سيفرز تأثيراته على جواره، إذا انخرط في حرب داخلية واسعة، إضافة إلى أن الجوار سيشكل مصدر دعم بشري وتسليحي ولوجستي لأطراف الصراع الداخلي.

ولعل تركيا من أكثر الدول المجاورة، التي يمكن أن تتأثر بحرب داخلية سورية. فهي صاحبة أطول حدود مع سوريا، وتضم هذه الحدود على جانبيها أكرادا يحملون قدرا كبيرا من الحساسية القومية مع السلطتين التركية والسورية، بل إن ثمة تناقضات داخلية كردية في تلك الحساسيات، يمكن أن تقود إلى تفاعلات كردية - كردية، كما أن تركيا مثل سوريا لديها حساسيات طائفية داخل أكثريتها الإسلامية بين السنة والعلويين، وقد تركت هذه الحساسية بصماتها في البلدين في خلال الستة عشر شهرا من عمر الأزمة السورية وتفاعلاتها.

لقد لعبت العوامل السابقة إلى جانب غيرها دور الكابح لتركيا في الدخول إلى صراع عسكري مع سوريا، غير أن تصعيد فرص الصراع في ضوء تطورات الأوضاع بين البلدين وفي المستويين الإقليمي والدولي، سوف يخفف من أثر تلك العوامل، ولعل التحقيق الذي شرعت فيه تركيا حول حادثة سقوط طائرتها، يمكن أن يكون مؤشرا، لما سوف تتطور إليه الأمور، سواء في اتجاه الإبقاء على الوضع الراهن في علاقات سوريا وتركيا، أو الذهاب من خلاله إلى تصعيد نحو مواجهة عسكرية تركية - سورية، وهو أمر محتمل في ضوء ما يحيط بالأزمة السورية من تطورات داخلية وإقليمية مضافة إلى تحركات دولية تستنفد فرص الحل السياسي الممكنة لأزمة صارت أرجحية حلها عسكرية، وهو تطور يراهن البعض من خلاله على إعادة خلط الأوراق، وتغيير وجه الأزمة في سوريا من صراع داخلي إلى أزمة إقليمية - دولية.