«الأفنديات» الذين ضاق بهم السادات!

TT

يتحدث الناس في القاهرة هذه الأيام، عن تسليم السلطة من المجلس العسكري الحاكم، إلى الرئيس المنتخب، الذي من المفترض أن يتم آخر هذا الشهر، وكأنهم يتكلمون عن «بضاعة» سوف يحملها المجلس العسكري، بين يديه، ثم يذهب بها مغلفة في صندوق، إلى الرئيس الجديد، ويخاطبه قائلا: هذه يا سيدي هي السلطة بين يديك!.. خذها وتصرف بها كما شئت.. ثم ينصرف هامسا: السلام عليكم!

ولا بد أن الذين يتصورون مسألة تسليم السلطة، على هذا النحو، ليسوا فقط مثاليين، أو حالمين، إنما هم قطعا - مع احترامي لهم طبعا - ساذجون للغاية، وطيبون إلى أبعد حد، و«على نيتهم» جدا كما يقال.

لا أقول ذلك، لأني ضد حكاية تسليم السلطة، ولا لأني أريد من «العسكري» أن يحتفظ بها، ولا لأني ضد أن يرأس الرئيس الجديد ويحكم معا، بدلا من أن يرأس، ولا يحكم.. ولا.. ولا.. إلى آخره.. لا أقول ذلك، لهذه الأسباب كلها، ولا لغيرها مما قد يماثلها ويوازيها، وإنما أقوله لأني أعرف، كما يعرف غيري كثيرون بالطبع، أن الواقع على الأرض مختلف تماما عن مثل هذه التخيلات أو التصورات، في ما يخص وضع المؤسسة العسكرية، في البلد، في فترة ما بعد ثورة 25 يناير 2011، كما أنه معقد إلى أبعد الحدود. فهذه المؤسسة تحكم البلد قولا وفعلا، منذ قامت ثورة يوليو 1952 حتى 11 فبراير (شباط) 2011 عندما تخلى الرئيس السابق عن الحكم.. وطوال هذه السنوات، تعاقب على مصر 4 رؤساء، هم محمد نجيب، وعبد الناصر، والسادات، ثم مبارك، وقد كانوا جميعا، من دون استثناء، عسكريين بامتياز، وكان كل واحد فيهم يحكم، ربما باستثناء الرئيس الأول، بينما عيناه على الجيش، وعلى المؤسسة العسكرية، وكان كل واحد من هؤلاء الثلاثة يشعر بالاستقرار على الكرسي، على قدر شعوره بأن المؤسسة العسكرية معه، وترعاه، وتحرص عليه، لأنه في الأساس واحد من أبنائها، وليس لأنه رئيس الدولة، كما قد يتصور هو، أو نتصور نحن.

وإذا كنت قد قلت، إنها حكمت من ثورة 1952 إلى ثورة 2011، فإن ذلك عندي راجع إلى أنها، كمؤسسة عسكرية، أحست بعد ثورة 2011، وتحديدا بعد تخلي الرئيس السابق عن الحكم، بأنها قد عادت فجأة، وبشكل مباشر، إلى الحكم.. فمن قبل كانت تحكم من وراء نجيب، أو عبد الناصر، أو السادات، أو مبارك.. ولكنها اليوم تحكم هي، مباشرة، من دون ستار، ومن دون حجاب!

مؤسسة هذه هي مكانتها في الحكم، في ما بين الثورتين، وبعد الثانية تحديدا.. هل نتصور أنها يمكن أن تتخلى عن الحكم، بسهولة؟!.. وإذا أرادت أن تتخلى.. هل تستطيع؟!

أعود هنا إلى ما كان أحمد بهاء الدين، قد ذكره، في كتابه «محاوراتي مع السادات»، عندما سأل هو السادات في منتصف السبعينات، عما إذا كان السماح بقيام أحزاب جديدة وقتها، سوف يكون بداية لأن يكون هناك حكم مدني، وبداية أيضا لأن تأخذ المؤسسة العسكرية عدة خطوات إلى الوراء.. عندها قال الرئيس السادات مخاطبا بهاء الدين: اسمع يا أحمد.. فيه حاجة الأفنديات المدنيين مايفهموهاشي، لكن انت قارئ تاريخ وتفهمها.. الجيش يا أحمد دخل السياسة، ومعنى كده إنه لن يخرج من السياسة قبل ثلاثين سنة، وأنا لما بفكّر في طريقة للتعدد السياسي والمؤسسات، وغيره، عايز أعمل توازن في الحياة المدنية مع القوات المسلحة.. ده الواقع اللي لازم نعرفه.. إن كان عاجبنا واللا مش عاجبنا!

هكذا، كان السادات يتخيل الأمور، وهو تخيل، كما ترى، شديد الواقعية، وشديد الإدراك لحقائق الواقع على الأرض، كما هي، وليس كما قد نتمناه.. وإذا كان بهاء الدين، قد راح في الجلسة ذاتها يروي للسادات تجربة تركيا، إزاء الموضوع نفسه، وإذا كان حديثه كما يروي هو، قد صادف استحسانا من السادات، فإن هذا معناه أن الرئيس السادات، سواء وهو يجيب عن سؤال بهاء الدين، أو حتى وهو ينصت إليه متحدثا عن تجربة الأتراك، كان يشير بوضوح إلى أن خروج المؤسسة العسكرية من الوجود المباشر في حياتنا السياسية، في حاجة إلى البدء مسبقا في إحداث «توازن» دقيق، من نوع ما، بينها وبين الحياة المدنية، ثم في حاجة أخرى إلى تراكم ممتد من هذا التوازن، وبعدها فقط سوف يكون ابتعادها عن الوجود المباشر في حياتنا السياسية ابتعادا طبيعيا، ومتسقا مع نفسه، ومع ما حوله، ولن يكون ابتعادا متعسفا، ولا قافزا فوق الحقائق الماثلة على الأرض.

ولا بد أن طبيعة دور المؤسسة العسكرية في ثورة يناير، سوف تسعفنا أكثر، إذا أردنا أن ندلل على مدى عمق وجودها في السياسة، طوال هذه العقود من الزمن، أي منذ قامت «يوليو» وحتى جاءت «يناير»! ففي كل مرة، من قبل، كان عبد الناصر، أو السادات، أو مبارك، يتعرض لأزمة في الحكم، كان يلوذ على الفور بالمؤسسة العسكرية، من دون غيرها.. حدث هذا مع عبد الناصر أيام أزمته مع عبد الحكيم عامر، وحدث هذا مع السادات أيام أحداث يناير 1977، وحدث هذا مع مبارك أيام أحداث الأمن المركزي عام 1986.. فلولا مساندة المؤسسة لهم، كل واحد في وقته، لسقط الثلاثة من فوق الكرسي.

وحين اندلعت ثورة يناير 2011، فإن مبارك لم يجد أمامه إلا المؤسسة ذاتها أيضا، ولو شاءت هذه المؤسسة أن تفشل الثورة، لفعلت من دون مشاكل تذكر، ولحققت ذلك، من دون صعوبة، ولذلك فإذا كانت الثورة قد بدأت بشبابها، وأولادها، فإنها نجحت بالمؤسسة العسكرية، وليس بأي شيء سواها.

ما معنى هذا كله؟! معناه أن الذي يحكم، من عام 1952 إلى 2011، هو الجيش، لا الرئيس، حتى وإن كان يبدو لنا، أحيانا، أن الرئيس يحكم، فهذه، حين تحدث، يمكن أن تكون مجرد تهيؤات لا تغير من واقع الحال شيئا.

مؤسسة بهذا القدر من الرسوخ في الحياة العامة، كيف يمكن أن نتخيلها وهي تغادر مواقعها بهذه الخفة التي يتكلم بها الذين يتكلمون عن تسليم السلطة، وكأنهم يتكلمون عن تسليم خطاب من جهة إلى جهة؟!

يتمنى المرء طبعا أن يأتي علينا وقت يكون وضع الجيش فيه، عندنا، ليس شبيها بوضعه في تركيا فقط، وإنما بأوضاعه في فرنسا، أو إنجلترا، أو حتى الولايات المتحدة.. ولكن هذه دول خاضت تجاربها في الحكم، حتى أنتجت التجربة أوضاعا طبيعية تعيشها كل دولة.. وليس أمامنا، والحال كذلك، إلا أن نخوض تجربتنا، بما ينتج أوضاعنا، لا أن ننقل عن الآخرين بالقلم والمسطرة!.. فالتجربة، في النهاية، ابنة بيئتها وحدها!