ضجر...

TT

الضجر قاتل فعلاً لا مجازاً، لا سيما حين يكون سلبياً ومتراخياً. وهذا الصنف له من الضحايا المموهين ما يتجاوز مهارة الشركات الاحصائية وحيلها في الكشف والرصد. فالضّجرون باتوا اكثر من الهمّ على القلب، حتى ان من لم يبتل بهذا الوباء قد يشعر بالذنب او قد يمزقه الغضب والقهر لأن المحيطين به لهم سلطة تدميرية لا يعرفها الا من يعاشرهم. ولو كان الضجر صموتاً جلوداً لهان الامر، لكنه صنوّ الثرثرة والنقيق والبحث الدائب عن رفيق يتقاسم معه حمل اثقال الخواء المريب الذي يخيم على كل شيء. وليس في ما نقول تجنياً على اي كان، انظر حولك تر جماهير المتململين الذين قد تكون (او نكون) احدهم وليس في ذلك عيب. انما العيب هو الاستئناس بهذا الضجر الخمول، الذي لا يطاق وتبنيه واحتضان جسده الشبحي كأنه قدر لا يرد وانما يهادن ويراوغ ولو كلّف ذلك عمراً بأكمله. علماً بان الشعوب لا تسير، جميعها، على هذا المنوال بحيث يصعب عليها تمرير الايام دون التآمر عليها والاجهاز على انسيابيتها مرّة بتقطيع الوقت ومرّات بقتله مع سبق الاصرار والترصد بتهمة انه «بطيء» و«طويل»، ويظن، على الارجح، انه بليد، عديم الحيوية، مما يعيدنا الى ما يسمى في علم النفس بـ«الاسقاط» حيث يسقط المبتلى ما يرغب من الصفات على ما او من يصطفيه بسبب نوع من الخلط والالتباس.

«ما اشبه الليلة بالبارحة» يقولون لك و«الايام مثل بعضها» وما دام «كله عند العرب صابون» لذلك فالتسليم جزء من التدبير، على اعتبار «يا الله.. عُمْر وبيمرّ». و« آخرتنا في القبر»، اي ان ثمة احساساً عميقاً بأن الحياة هي مجرد محطة غاية الانسان منها انتظار الموت بأقل جهد ممكن. والتفكير على هذا النحو آفة معالجتها متاحة شرط الاعتراف بها كحالة وبائية تحتاج الى حملة على غرار حملات مكافحة المخدرات والسرطان وربما بوتيرة اشد حزماً وقسوة.

اما اعتبار الضجر بسمته الجماعية الشائعة التي باتت تضرب الشبيبة العربية في صميم ارادتها، نتيجة طبيعية ومقبولة لليأس وسوء الحال، وضرباً من الوجودية الفلسفية فهو من المغالطات التي تسوق الى نفق مسدود ومظلم، خاصة اننا لا نلحظ وسط هذه الاجواء المكفهرّة ان ثمة تقززاً من النوع الذي منح جان بول سارتر نعمة ولادة كتابه «الغثيان» ودفعه الى احتجاجية اثمرت تياراً فكرياً هزّ وجدان البشرية اواسط القرن العشرين. كما ان اعتراض المتأففين العرب وشكواهم من الآفات والعلل المحيطة بهم ليس من فصيل التذمر الذي عبّر عنه البير كامو من خلال روايته «الطاعون» التي تنبع جماليتها من صدق الانين المتأتي من سطورها. لكنه انين متوجع يضع الالم تحت مجهر السؤال وفي دائرة الجدل.

فالضجر نوعان احدهما سقيم عليل ومحبط حتى حدود اليأس وآخر سقيم وعليل هو الآخر لكنه متمرد ومتحفز يشحذ اسلحته في سبيل التغيير والتجديد والتشجيع على جعل الوجود اكثر ذكاء وفطنة. وهذا الضجر النابض والعصبي والمتأزم، ربما كان الباعث الذي يدفع بالفنانين الموهوبين الى الابداع والخلق، رغبة منهم في الانقلاب على الضيق الرابض في صدورهم، بابتكار عالم مختلف موازٍ للعالم البشع الذين يعيشون فيه. اي ان الفن بهذا المعنى يصبح هروباً رائعاً من زنزانة النكد الى فضاءات الوهم الجميل الذي به يقاوم الانسان كيد الحقيقة ورهابها.

فليست المسألة ان تكون ضجراً ام لا، وانما السؤال هو حول ما تفعله بهذا الضيق الشديد الذي لا بد ينتاب كل بني آدم في لحظة سكون متأملة، هل تؤاخيه وتسلّمه مفاتيح روحك وطمأنينة ايامك، ام تنقضّ عليه وتستنطقه وتجرده من حججه بالمعاندة احياناً وبالمهادنة احياناً اخرى، لكنك تبقى مصراً على ان لا تدعه يمسك بزمام رقبتك ابداً. وهنا يكمن الفرق بين كائن هامد وآخر مستنفَر ومستنفِر. والمشكلة ان ثمة من لا يعي ماهية الضجر ولا يتنبه لوجوده المتغلغل في نبض قلبه، لكنك تعرفه (اي شخص) حين تجده يستغرب من عقارب ساعته التي لا تهتز الا بشق الانفاس فيشعر بحاجة لا تقاوم لاستدعاء المعارف، المبغضين منهم او حتى المنافقين، اذا تعذّر لقاء المخلصين وذلك حين تشتد وطأة الوحشة والوحدة. هذه الوحدة التي لا يدجّنها غير الكلام. وكم يبدو الكلام مسعفاً وملحاً حين يكون الخوف من الصمت مزلزلاً اشبه بمواجهة مستحيلة لكون من الفراغ الداخلي المدوّى.

وبدل ان يقاوَم الضجر بالعمل والبحث عن المعنى المفقود رغم انه موجود فإن الميل (في حال الجهل بالعلّة) يذهب صوب التمترس خلف الاسترخاء بادمان مشاهدة اتفه ما تقدمه المحطات التلفزيونية وارتياد المقاهي واستعادة مذاق النراجيل والمثابرة على جلسات سمر طويلة وعقيمة لا تورّث غير المزيد من الإحباط والسقم. والملل يجر الملل حتى تصبح الاغاني مكرورة والبرامج التلفزيونية مستنسخة والاحاديث مجترّة والآراء متوافقة والامزجة متطابقة. كل ذلك يجعل التجدد والتمايز ضرباً من الجهاد الذي يستحق الاستشهاد في سبيله، في ما تشح الساحة بمن يرغبون في محاربة هذا الجو الرتيب. وتحديداً ممن ينتظر منهم ان يهبّوا لكسر هذه النغمة الايقاعية الاستفزازية. ولا ينجو من الجنحة شعراء وروائيون او رسامون ومسرحيون إلا بما ندر. اذ هؤلاء باتوا ينجرّون هم ايضاً الى نقيق وتبرّم لا يختلف الا في تنميق اساليبه عن ذاك الذي نسمعه على قارعة الطريق وفي احشاء الصالونات. والشعر، وتحديداً الـ«ما بعد حداثي» منه الذي يثير اسمه شهية الانتفاض وتكسير القيود، تجده اشد الفنون اصابة بهذا الداء اللعين وتخمةً بمشاعر النفور والبؤس والتيه الذي يفضي الى تيه... واين من هذا الجفاف واليباس رومانسيو القرن التاسع عشر الذين ملأهم الهم والغم امثال بودلير فتفتّق ضجرهم عن متع ما تزال ملجأ للهاربين من احزانهم.

الشعور باللاجدوى امر انساني، والتضجر هو ايضاً سمة انسانية معروفة، لكن الذي يميز انساناً عن آخر ويرسم حدود آفاقه هو موقفه من الضجر والسقم واليأس الذي يعشش في كيانات البشر. وان تجعل الضجر قوة تفجيرية او ان تبغيه سماً قاتلاً هنا يتجلى الفرق اذ «ان الحياة لا قيمة لها ولكن لا شيء له قيمة الحياة» كما قال اندريه مالرو.

وأخيراً، ارجو ان لا يكون كلامي عن الضجر مضجراً، واكون بالتالي قد وقعت في فخ الإضجار.

[email protected]