التناقض الأمريكي

TT

بدأت الحملة الاعلامية الامريكية ضد المملكة العربية السعودية مع بداية شهر اغسطس 2001 وكنت في حيرة من أمري عن سبب هذه الحملة. لأن كل الادعاءات مكررة وقديمة فلماذا الآن! حتى بدأنا نكتشف اسرار الخطابات الجريئة والمواقف الواضحة لحكومة خادم الحرمين الشريفين تجاه القضية الفلسطينية والموجهة من ولي العهد للرئيس بوش.

كثير من الكتاب الامريكيين كتبوا. ولأننا نعرف ميولهم (ليكود) ولمن يعملون (ايباك) لم نعط للحملة اهمية ولم نهتم بالرد عليهم. إلا انني زعجت عندما قرأت مقالة كلها تعكس التناقض الامريكي ونكران الجميل في جريدة «وول ستريت» المحافظة، وهي تهتم بشؤون المال والاقتصاد، والمقال غير موقع من أي كاتب مما يعني انه يعكس رأي هيئة التحرير. هنا وجدت ان من واجبي كرجل اعمال ان ارد عليه وأبدي رأيي بصراحة حول التناقض الامريكي وليس «التناقض السعودي» كما كان عنوان المقال. ان مقال جريدة «وول استريت» المؤرخ 30 اكتوبر 2001 والمعنون «التناقض السعودي» يكشف عن الحملة المتعمدة في اجهزة الاعلام الامريكية ضد المملكة العربية السعودية وهو امر قد اعتاده السعوديون في هذه الايام. فالمقال يعكس الجهالة الامريكية ويكشف عن لهجة الاستعلاء والغطرسة التي اصبحت اسلوبا لكثير من احاديث النخبة الامريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث لم يسلم احد في العالم من انتقادها اللاذع المهين. وقد ابرز النائب الراحل (ويليام فلبرايت) بجلاء هذا التوجه الامريكي في كتابه المسمى «غطرسة القوة» Arrogance of Power.

استهل مقال الجريدة المذكورة الهجوم على السعودية باقتباس عبارات من خطاب ولي العهد الأمير عبد الله للرئيس بوش في شهر اغسطس (آب) المنصرم حيث وصف الأمير عبد الله علاقة الولايات المتحدة بالسعودية بأنها وصلت الى «مفترق الطرق». انني اعتقد ان العلاقة قد وصلت بالفعل الى مفترق الطرق. فخلال السبعين سنة الماضية كانت المملكة الحليف الوفي للولايات المتحدة، إذ كانت البلد الوحيد الذي أتاحت موارده النفطية الهائلة رفاهية الشعب الأمريكي. ولكونها دولة محورية منتجة للنفط، فقد لعبت السعودية دورا معتدلا في منظمة الأوبك لاستيعاب مصالح الولايات المتحدة والغرب، فضلا عن ذلك قامت ايضا بدور معتدل في سياسات منطقة الشرق الأوسط. وعلى امتداد العشرين عاما الماضية انفقت السعودية حصة ضخمة من ناتجها القومي اسهاما منها في مساعدة الدول النامية على امتداد العالم فوصل ذلك في بعض الأحيان الى ما نسبته 7% ولم يقل أبدا عن 3% مما خفف العبء عن الولايات المتحدة للالتزام بالمساعدات الاقتصادية الضخمة للدول النامية. وبالمقارنة فان الولايات المتحدة تنفق اقل من 0.20% من اجمالي ناتجها القومي على المساعدات الاقتصادية التي تحظى بمعظمها اسرائيل.

عندما ظهرت الحاجة لمساعدة الاخوة في افغانستان لاحتواء التدخل السوفيتي فيها نسقت المملكة مع امريكا والحلفاء الآخرين دفاعا عن المسلمين في افغانستان وقامت بتجنيد المتطوعين وأمدتهم بالسلاح والمال ليحاربوا جنبا الى جنب مع الشعب الافغاني. ولكن بعد تحقيق النصر على السوفيت وكسب الحرب خرجت الولايات المتحدة بهدوء من افغانستان تاركة وراءها الشعب الافغاني والمملكة العربية السعودية والمجاهدين المسلمين في فراغ. إن الحماس للجهاد في سبيل الله الذي أشعل لمواجهة السوفيت لا يمكن ان يطفأ بتلك البساطة. فعندما ترك الافغان العرب في افغانستان بعد خروج السوفيت كان لا بد لهذه القوة العاطفية الهائلة ان تفتش عن هدف وعن مناطق جهادية اخرى. وكان المتطوعون العرب ومنهم السعوديون: وهم على درجة من صفاء القلوب والالتزام بالمثل العليا، غير قادرين على تفهم العوامل الانتهازية في سياسة الولايات المتحدة الخارجية مما عكس سلبا على نظرتهم لأمريكا وحلفائها في المعركة مثل السعودية ومصر والأردن والمغرب والجزائر. وقد أدى ذلك الى ظهور ازمة ثقة بين حلفاء الأمس: الحكومات العربية ومنها الحكومة السعودية والمجاهدون الافغان العرب مما انعكس على خلق ظاهرة عدم استقرار في كل هذه الدول.

ويركز مقال الـ«وول ستريت» على ان تحالف امريكا مع السعودية او غيرها من العرب هو عامل استقرار لهذه الدول العربية، في حين ان الواقع اثبت ان مثل هذا التحالف هو عبء على المملكة وشقيقاتها العربيات وليس عامل استقرار. اضف الى ذلك ان المقالة بمنطقها الاعوج تدعي ان الاستقرار في السعودية معتمد على تواجد عسكري امريكي محدود في السعودية. ان الوجود المحدود والذي تحملته المملكة نتيجة التزاماتها بالقرارات الدولية المتعلقة بحرب الخيلج هو عبء سياسي على حكومة المملكة لأنه تواجد متحفظ عليه من قبل كثيرين وليس عامل استقرار. ان استقرار المملكة ولله الحمد معتمد على الله والتفاف الشعب السعودي حول قيادته الشرعية.

ويتناول المقال مواضيع خطيرة في ما يتعلق بتطور الاقتصاد السعودي ومؤسساته وشكل الحكم فيها، وينوه بتهديد مقنع بالاستيلاء على حقول النفط. وسوف نتناول هذه المواضيع بالتفصيل.

اولا: يبدأ الكاتب بالتركيز على التهمة التي اصبحت موضوعا مكررا في الحملة الاعلامية الامريكية ضد المملكة وغيرها من الدول النامية، وهي تهمة انتشار الفساد الاداري والمالي. ان الرد الواضح على هذا الاتهام هو ان مسؤولية الاثبات تقع على عاتق من يسوقون الاتهام. وبما ان اكثر من %90 من العقود الرئيسية في المملكة قد وقعت مع شركات امريكية، فان قانون مكافحة الفساد الاجنبي الامريكي تنطبق على ممارسات تلك الشركات التي حصلت على هذه العقود. وان اي عملية رشوة تحتاج الى شريكين، الراشي والمرتشي، وعلى الكاتب ان يدعو حكومته لتناول هذا الموضوع ومعالجته وتوقيع العقوبات المحددة في النظام ضد الشركات الامريكية التي حصلت على العقود اذا ثبت انهم قدموا رشاوى وذلك لانقاذ كل المجتمعات الفقيرة من هذا الداء الذي تصدره امريكا وحلفاؤها في الغرب عند تنافسهم للحصول على هذه العقود. فاذا لم يستطيعوا الاثبات فهو ادعاء كاذب.

ويجدر الذكر بان الراشي من الجانب الامريكي هو مجلس ادارة الشركة الموقعة للعقد والمكون من عدة اعضاء قياديين في مجتمعاتهم واكثرهم مسؤولون سابقون في الحكومة الامريكية وذلك لان صلاحية اعطاء ملايين الدولارات بصورة مباشرة او غير مباشرة لا يمكن ان يتحملها عضو واحد او مدير تنفيذي. اما المرتشي في الدول النامية فهو فرد واحد ولا يمثل المجتمع بكامله. أي ان الرشوة اذا ثبتت فهي عمل مؤسسي في امريكا اما في الدول النامية فهي فردية ويمكن القضاء عليها بعد اثباتها.

ثانيا: اما بالنسبة لممارسة السعودية للديمقراطية فالحقيقة ان السعودية لا تمارس الديمقراطية على النحو الممارس في الاعراف الغربية، وان شكل حكومتها لا يندرج تحت افكار «مونتسكيو» عن حقوق الانسان. ولكن من الغباء ان يدعي احد ان مفاهيم حقوق الانسان والديمقراطية لا تنمو إلا في حدائق الأنجلو ساكسون. فحقوق الانسان والاعراف والديمقراطية في السعودية ضاربة الجذور في اسلامها وفي اعرافها القبلية. فالسعودية توفر لمواطنيها خدمات التعليم والصحة والاسكان والتوظيف بدرجات لا تقل عما هو متوفر لدى البلدان المتقدمة. وبذلك فإنها بخلاف الولايات المتحدة حيث يفتقر نسبة %40 من مواطنيها للتأمين الصحي، تكفل السعودية لمواطنيها كافة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية حسب مواثيق الامم المتحدة بهذا الشأن.

ثالثا: في ما يتعلق بالحقوق السياسية، فان السعودية قد نأت بنفسها عن النظام الانتخابي ولكنها استعاضت عن ذلك بمجلس الشورى (وهو مجلس استشاري) ويتمتع بكافة السلطات والصلاحيات والمهام الموجودة في الانظمة البرلمانية. فالمجلس يقوم باعداد القوانين وتكوين لجان متخصصة واعتماد الانظمة ومناقشة المسؤولين بالطريقة الممارسة في مجلسي الشيوخ والنواب الامريكيين فضلا عن هذا فان اعضاء مجلس الشورى والمكون من 120 عضوا يمثلون مختلف القطاعات الشعبية.

ومن ميزات هذا النظام ان الاختيار للعضوية فيه يعتمد على الامانة والدور الاجتماعي بعيداً عن مؤثرات المصالح الفئوية الخاصة ودعايات الحملات الانتخابية. وننصح السناتور «جون ماكين» الذي يصر على تقليص نفوذ التبرعات الانتخابية ان يتأمل هذا النظام ونحن على ثقة من انه سوف يستفيد منه في دعوته خاصة بعد الانتخابات التي انفق عليها احد المنافسين على عمدة نيويورك مبلغ 55 مليون دولار.

اما في ما يتعلق بحقوق المرأة فقد يندهش الامريكيون اذا علموا ان اكثر من %50 من الثروة السعودية الخاصة انما هي لنساء سعوديات. فالمرأة السعودية سيدة مالها ولا تحتاج الى موافقة زوجها للدخول في عقود واعمال وهي محل تقدير واعجاب من قبل زوجها وابنائها وتعامل بالاحترام الكامل في كل مكان.

من منطلق هذه الحقوق والمزايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في بلدنا، فإن مجتمعنا ابعد ما يكون عن تلك الصفات التي جاءت بالمقال والتي وصفها محرر المقال بأنه «المجتمع المتخلف» فالمجتمعات المتخلفة ليست في المملكة ولكنها هناك حيث الاغتصاب والسفاح والمخدرات والعنف الذي هو جزء من الحياة اليومية لكل مدينة صغيرة او كبيرة في الولايات المتحدة الامريكية.

رابعا: وفي ما يتعلق بالتعاون مع الولايات المتحدة لتحديد مواقع الارهاب ومكافحة مصادر تمويله، فان السعودية كانت وما زالت توقف كل حالة اذا تبين ان التمويل موجه لغير الغرض من جمعه خرقا لتوجيهات الحكومة السعودية، اما في الحالات التي لم يتوفر فيها الاثبات فان الاموال والحسابات بقيت كما هي دون تدخل. والمهم ان نتذكر ان السعودية دولة ذات سيادة وانها لا تعمل وفقا لنزوات المسؤولين في وزارة الخزانة الامريكية. ومواقف المملكة بالنسبة للارهاب مواقف مبدئية وعرفت قبل الحادي عشر من سبتمبر.

واخيرا: فان التهديد المقنع بالاستيلاء على حقول النفط السعودية امر على جانب من الخطورة فان أي عاقل لن يجرؤ ان يوحي ان باستطاعة الولايات المتحدة ان تستولي على حقول النفط السعودية او تعتزم الاستيلاء عليها. ويدعي المقال ان السعودية قد تخلفت عن القرن العشرين. ان دعوة كاتب المقال للاستيلاء على النفط السعودي يبين انه قد تخلف عن القرن التاسع عشر. فهو لا يدرك ان الاستعمار قد انزوى واندثر بسيئاته وآثامه منذ امد طويل. ان شعب المملكة العربية السعودية الذي كان يكن الاحترام للولايات المتحدة ويحسن معاملتها سيحيل حقول النفط ان تم ذلك الى جحيم في وجه من يحاول المساس بها. نعم ان العلاقات الامريكية السعودية عند مفترق الطرق كما ذكر ولي العهد. فإن لم توقف الولايات المتحدة واعلامها الهجوم على السعودية فإنه قد يتعين على السعودية كضرورة ان تعيد النظر في العلاقات الخاصة والمتميزة التي تربطها بالولايات المتحدة والتي ظلت السعودية ترعاها على امتداد سبعين عاما. وهذا يعني انتهاج سياسات مغايرة والدخول في مشاركات بديلة مع بقية العالم. وقد يشتمل ذلك على مراجعة العلاقات التعليمية الخاصة مع المؤسسات الامريكية حيث يعاني الطلاب السعوديون مضايقات يومية. وقد يشتمل ذلك ايضا سحب كثير من مئات البلايين من الدولارات من الاستثمارات السعودية في السوق المالي الامريكي مما قد يؤدي الى تعميق الكساد الاقتصادي الذي تشهده الولايات المتحدة. وقد يشتمل ذلك ايضا على ان تقوم المملكة بدور مختلف في منظمة الاوبك. والقائمة طويلة وممتدة.

ان الاسلوب الاعلامي المشحون بالحقد والتعصب لا يخدم غرضا. فالارهاب يأخذ اشكالا مختلفة وفي الواقع ان مقال «وول ستريت» قد يدفع لتعميق الارهاب حين يحاكي الارهابيين في اسلوبهم. فالسعودية بلد مسالم يعيش اهله في توافق مع الدين والعرف وان الارهاب جسم غريب من المجتمع السعودي فان العمليات المحدودة التي حدثت منذ حرب الخليج قام بها افراد استهدفوا فيها مصالح اجنبية. ان شعب السعودية لا يحتاج الى نصيحة قائمة على الجهالة والغطرسة. وفي الختام لعلي اذكر كاتب المقال بما نقله عن الامير عبد الله من أن «الوقت قد حان لأمريكا والسعودية ان تهتم كل منهما بمصالحها الخاصة».

=