الخطأ؟ في التعبير

TT

يجتمع اليوم في قرية قرب بون ممثلون عن الفئات او الاحزاب او الجماعات او القبائل او الطوائف الافغانية للبحث في اقامة نظام سياسي يحكم افغانستان في المستقبل. اين الخطأ في الموضوع؟

الحقيقة ان الخطأ هو في المصطلحات. مثلاً، «يجتمع». الافغان لا يجتمعون ولو اجتمعوا. واذا اجتمعوا لا يجمعون. ايضاً الكلمات التالية مصطلحات خاطئة: «اقامة». «نظام». «مستقبل». «حكم». «بحث». الا ان الصحافة مضطرة الى استخدامها، اولاً بحكم العادة، وثانياً لأن الحروب الافغانية لم ينتج عنها الى الان قاموس خاص كما ابدعت الحروب اللبنانية من قبل: «ابو الجماجم». «رامبو». «خطَّاف». «رشاش». «مرشوش». الى آخره.

من «خبرتنا» في لبنان، سوف تكون بون المؤتمر الاول لكن ليس الاخير. وفي الماضي انتقل اللبنانيون الى مدينة لوزان السويسرية، حيث «اجتمعوا» و«التقوا» والقوا الخطب عن «الوحدة الوطنية». لكن الحروب ظلت مستعرة الى ما بعد سنوات طويلة. لكي ينجح اي مؤتمر من هذا النوع يجب ان يكون امام الحاضرين (وليس المجتمعين) غاية واحدة، هي البلد نفسه. ويجب ان يكون بين الحاضرين من يعنيه او يهمه كل ما حدث من موت وقتل وفقر، وان يعنيه ويهمه شكل الحياة والبقاء والاستمرار والتقدم. غير ان معظم الحاضرين دفعوا ببلادهم واهلهم واطفالهم الى القتل، عاماً بعد عام، وجماعة بعد جماعة، وفوجاً بعد فوج، لم تعرف حروب اهلية اخرى كل هذا الشغف بالقتل وكل هذا الازدراء للحياة.

مَن الذي اقترح بون؟ انها، في المطلق، فكرة حسنة. ففي هذه البلدة الشهيرة على الراين انتهى صراع المانيا مع نفسها ومع العالم. وفي هذه البلدة الصغيرة، اعيد تشكيل «الراين» بزعامة عجوز يدعى كونراد اديناور، يشبه في ملامح وجهه الى حد بعيد، الملك محمد ظاهر شاه، اليد الوحيدة غير الملطخة في حروب افغانستان. لكن من يقبل هذا العجوز غير الملطخ الآن؟ هل من اجل اعادة محمد ظاهر شاه، اقيم هذا المهرجان الدائم من القتل؟ طبعا لا.

على ان اختيار بون لا يزال، من حيث الرمز، المكان الانسب. فهي ليست المدينة التي ستنتهي فيها حروب المانيا الهائمة بالحروب فحسب، بل هي ايضاً المدينة التي ستعود منها وحدة المانيا. فاليوم لا احد يذكر انه كانت هناك المانيا شرقية واخرى غربية. ولا ثأر. ولا انتقامات. ولا بشتون ولا طاجيك ولا هزارة. ولا شرقيون ولا غربيون. هناك فقط المان، يعيش كل منهم في منطقة مختلفة، في ظل قانون واحد، وموازنة حكومية واحدة، ووزارة خارجية واحدة، متى سيحدث ذلك في افغانستان؟

ولا ننسى المشابهة الاخرى والغريبة ايضاً: في بون ما بعد الحرب، كان الاميركيون يفرضون. وكان البريطانيون يحضرون. وكان الروس يشاركون. وقد يقال لكن افغانستان ليست المانيا. نعرف. نعرف. لكن الارادة في بناء الامم والغاء الشغف بالتذابح، ليست وقفاً على الدول الصناعية وشعوب التكنولوجيا. هناك اكثر من مليار صيني يعيشون ويعملون من اجل دولة واحدة. وهناك مليارات آخرون يعيشون في دول موحدة من دون تقاتل. ولكن ثمة سوء طالع يلاحق افغانستان منذ الانقلاب على محمد ظاهر شاه، وهو ان «لوردات الحرب» هم ايضاً ابطال السلام. هم الذين يتقاسمون ويتشاجرون ويتفاوضون و... يجتمعون، اذا صح التعبير. وقد يصح التعبير من دون ان يصح التدبير. ونأسف شديد الاسف ان نحن لم نجد ما يبعث على التفاؤل في كل هذه المذابح ووسط كل هذه الجثث. كما نأسف اننا لا نجد املاً كبيراً حين نرى تمرد السجون يقمع بمساعدة القوات الاميركية الخاصة، فيما تستنكر واشنطن اوضاع السجون في تركيا او المكسيك. ليس من الضروري ابداً ان ينزل «المستشارون» الاميركيون الى الارض. على الاقل من اجل ان يبقى شيء من المصداقية «لحقوق» الانسان. في اي مكان.