رهان أميركا على بساط الريح الإخواني

TT

لا عبد الناصر. ولا عفلق. البيطار. جورج حبش، اجتهدوا أو تمكنوا من إقناع الغرب (أميركا وأوروبا)، بقبول المستودع القومي، كهوية لأمة ذات حضارة. تاريخ. ولها طموح في التغلب على التجزئة بالوحدة.

السبب تمسك عبد الناصر والبعث بمبدأ الوحدة، وإسقاطهما مبدأ الحرية السياسية من المشروع القومي، فيما زاوج رواد المشروع في النصف الأول من القرن العشرين، بنجاح باهر، بين نضالهم ضد الاستعمارين التركي والأوروبي، وتبنيهم للديمقراطية. وأسسوا تجارب برلمانية ترتكز على الاقتراع الشعبي.

حدث سوء فهم خطير للقومية العربية، في الغرب الذي كان مزهوا بديمقراطيته، بعد سحقه القومية الأوروبية العنصرية، في حرب شاقة. انسحاب العرب من الديمقراطية أدى فورا، إلى رفض الغرب للناصرية والبعثية، ومقارنة المشروع القومي العربي، بلاديمقراطية المشروع الجرماني الفاشي.

في الستينات، تحول سوء الفهم المتبادل إلى صدام آيديولوجي وسياسي، بين العرب والغرب. فقد راهنت الناصرية والبعثية (نسخة صلاح جديد) على الماركسية المغطاة بغلالة اشتراكية، لم تكن ناجحة في التطبيق الاقتصادي.

في ذروة الحرب الآيديولوجية الباردة بين الغرب وروسيا الشيوعية، لم تكن استعانة العرب بالماركسية مقبولة، فيما اعتبرت الوحدة القومية لأمة كبيرة، تسيطر على مفاصل البحار والمحيطات، وتتحكم بمسار الطاقة النفطية، بمثابة تهديد كبير للمصالح الغربية.

وهكذا، تمت الاستعانة بإسرائيل المسلحة نوويا والمتفوقة عسكريا، لتوجيه ضربة عسكرية (1967) لسوريا ومصر التي كانت متورطة بنزاع عبثي مع النظام الخليجي، في اليمن. وأدت الحرب إلى انكسار المشروع القومي العربي.

كانت استدارة الستينات نحو السبعينات (1968 / 1971) مفصلا تاريخيا في الحياة العربية. فقد شهدت ولادة مشروعين بديلين للمشروع القومي. الأول نظام جمهوري (العراق. سوريا. ليبيا. السودان) ذو علاقة غامضة بالغرب. والثاني مشروع ديني تبنته، علنا وضمنا، الولايات المتحدة.

حديثي اليوم يتناول انحياز أميركا للمشروع الديني في مصر، بمناسبة الأزمة الانتخابية الرئاسية، مؤجلا الحديث عن المشروع الجمهوري إلى ثلاثاء آخر، مكتفيا بالقول إنه ألغى السياسة. عاش بعنف القمع الأمني. وتعايش بذكاء الحيلة مع مختلف التحولات الإقليمية والدولية أربعين سنة، ليواجه أخيرا الانتفاضات الشعبية ضده.

لماذا راهنت أميركا على الإسلام السياسي؟ لأنها لمست باكرا تحولا في المجتمعات العربية والإسلامية نحو الطهارة الدينية، بعد فشل تجارب الحداثة الديمقراطية، في تحسين المستوى المعيش.

كان اللقاء الأول في مصر، مع الإسلامين «الإخواني». والجهادي. تمت الاستعانة بهما «لتطهير» الشارع والجامعات من الناصريين واليساريين، لتأمين وتمكين النظام الساداتي.

لم يكن اغتيال الرئيس السادات (1981) حائلا دون استمرار التعاون بين أميركا والإخوان والجهاديين. تم إخراج الشيخ عمر عبد الرحمن الذي أفتى بقتله، من محبس الرئيس مبارك، ليفتي بتحليل تجنيد الإخوان والجهاديين في حرب أميركا ضد «الكفار» الحمر في أفغانستان.

في الوقت ذاته، امتشقت أميركا البروتستانتية السيف الكاثوليكي للبابا الشعبي يوحنا بولص الثاني، لمحاربة الشيوعية في أوروبا الشرقية، من النافذة البولندية، في حين تم الرهان الأميركي أيضا على الإسلام السياسي الشيعي. جرى سحب الشاه المزعج لأميركا في الخليج. واستدعي محله المرجع الديني الخميني المقيم في الحضانة الغربية (فرنسا).

كان الرهان الأميركي على المشروعين السني والشيعي كارثيا. مأساويا. هناك اليوم حرب بين أميركا والإسلام السني الجهادي، تدور بطائرة النحلة (درون). فيما تخلص نظام الخميني من جناحه العلماني «الأميركي». واستغل تسليم بوش العراق لنظام طائفي مشايع لإيران، ليخترق المشرق العربي عبر تحالفه مع النظام العلوي السوري، ليقيم دويلة مسلحة للطائفة الشيعية في لبنان.

«ما الحب إلا للحبيب الأول». في الحب الحلال بين إدارة المثقف أوباما والإسلام «الإخواني»، تبدو أميركا الدولة الديمقراطية الكبرى غير آبهة، بمصير ليبرالية ثقافية. اجتماعية مصرية، عمرها قرنان من الزمان. نعم، كان في هذه الليبرالية كثير من التلفيق والمداورة، تفاديا لصدام مع الدين. لكنها كانت منارة ثقافية أنارت العالم العربي، حتى قبل أن تستعيد مصر عروبتها في الزمن الناصري.

هذه هي المشكلة مع «البراغماتية» السياسية الأميركية. فهي لا تراعي مصالح الشعوب. ولا تحترم ثقافاتها. وتقاليدها، عندما تعتقد أن مصالحها السياسية تفرض على العالم النامي خيارات سياسية. واجتماعية، لا تتفق حتى مع الديمقراطية الأميركية، والليبرالية المحافظة للمجتمع الأميركي.

لست من أنصار ودعاة «ثقافة العداء» لأميركا التي أشاعها النظامان السوري والإيراني، لخدمة مشروع الاختراق الشيعي الفارسي للعروبة المشرقية، تحت ستار خدمة القضية الفلسطينية. بل لست معنيا بمن يفوز في الانتخابات الرئاسية المصرية.

إنما أعترف بأن الديمقراطية تفرض التسليم باختيار الأغلبية الشعبية للشخص أو الحزب. غير أن الديمقراطية المصرية والعربية لم تستفد، بعد، من تقدم التقنية الإلكترونية، في الفرز الأمين. والسريع للأصوات، وخاصة في الاصطفاف الشعبي المتعادل بين الإسلاميين والليبراليين، كما في مصر.

بل لم تفرض «غزوة الصناديق» اختبار صحة وسلامة مرشحين رئاسيين لقيادة دولة تضم 85 مليون إنسان. المرشح الإخواني الشيخ مرسي أجرى عملية جراحية دقيقة في الدماغ قبل خمس سنوات. وهو منذ ذلك الحين، خضع ضمنا لوصاية المرشد، ولزميله خيرت الشاطر المحرك «النافذ» للجماعة الإخوانية. من حق الشعب أن يعرف أن الشخص الذي انتخبه سليم العقل. والبدن. والمنطق.

الديمقراطية أيضا تفترض خضوع السلطة التنفيذية، بمؤسساتها المدنية والعسكرية، للمؤسسة الرئاسية. بيد أن احتفاظ المؤسسة العسكرية المصرية سلفا باستقلاليتها، عبر تشريع دستوري مؤقت، هو دليل على انعدام الثقة بين المجلس العسكري وأي نظام إخواني.

كانت «ثورة القضاة» المصريين بمثابة دفاع ناضج وواع، عن الليبرالية المصرية أمام التهديدات الشعبوية الإخوانية، والتخوف من ابتلاع المرجعية الإخوانية للدولة. وللسلطة التشريعية. و«أخونة» المؤسستين الأمنية والعسكرية. والسلطة القضائية.

حتى «ثورة القضاة» لم تسلم من هجمة الإعلام الأميركي المنحاز بوضوح للإسلام الإخواني. فقضاة المحكمة الدستورية اتهموا بأنهم «قضاة عينهم مبارك». وقضاة محكمة الجنايات الذين حاكموا مبارك اتهموا، أميركيا، بأنهم «خاضعون» للمجلس العسكري.

أخيرا، لست ضد «التداخل» السياسي والثقافي العربي. في التعامل القطري المباشر والمكشوف مع الطيف الديني المصري، آمل في أن توسع قطر علاقتها مع الطيف السياسي المصري، فلا تقتصر، هي أيضا، على ركوب بساط الريح الإخواني.