الكرسي ومرسي.. و«الإخوان» في السلطان

TT

أما وقد انتهت الجولة الثانية من السباق الرئاسي المصري بفوز مرشح الإخوان المسلمين، محمد مرسي، ولو بفارق ضئيل جدا عن منافسه أحمد شفيق، فقد وجب النظر للأمور بشكل مختلف.

لقد فتحت صفحة جديدة ليس في تاريخ مصر، بل في تاريخ العمل السياسي للجماعات الأصولية المسيسة، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، التي تربى على يدها محمد مرسي، وعلى صهواتها وصل إلى كرسي الرئاسة المصرية، على الرغم من التصريح «اللطيف» الذي قاله أمين عام جماعة الإخوان المسلمين، محمود حسين، عقب إعلان فوز مرسي، بأن الأخير لم يعد عضوا في الجماعة ولا في حزبها، الحرية والعدالة، أي أنه أصبح الصبح وقد «مسح» كل أدبيات وتربية الجماعة له، أصبح فقط رئيسا لكل المصريين، في عبارة شعرية لذيذة.

أقول: فتحت صفحة جديدة، لأن هذه أكبر ثمرة وقعت في سلة الإخوان المسلمين من ثمار ما سمي بالربيع العربي، الذي التحقت به جماعات الإسلام السياسي متأخرة (كما في تونس ومصر)، لكنها حصدت مغانم ومكاسب هذه الثورة من خلال مقاعد البرلمان والآن مقاعد الرئاسة، وجلس شبان الثورة «النقية» يندبون حظهم، ومعهم الكتاب الشعبيون من المتسمين بالليبرالية، سواء في الشرق أو الغرب، غير أن هذا حديث مختلف، تأتي مناسبته لاحقا.

بعيدا عن تفاصيل المنافسة الانتخابية بين شفيق ومرسي، وبعيدا عن «اللغو» الكثير الذي قيل عن استفراد العسكر بالحكم، وميل القضاء المصري، ومنه لجنة الانتخابات الرئاسية، إلى صالح شفيق، تبين أن كل هذا مجرد إرهاب إعلامي وشعبي، كما قال رئيس اللجنة المستشار فاروق سلطان، وأن مرسي فاز، ليخرج لنا مرسي في أول خطاب وهو يحيي القضاء المصري، على الرغم من أن جماهير الإخوان وأبواقهم الإعلامية، ومعهم بعض مراهقي الثورة المصرية، كانوا طيلة الأيام الماضية يغمزون بالقضاء المصري، ويشنون الحملات المتوالية عليه، لكن بعد فوز مرسي أصبح القضاء شامخا وعمودا من أعمدة الدولة المصرية، كما قال محمد مرسي في خطابه إلى «الأهل والعشيرة»!

سبق أن تحدث كاتب هذه السطور عن أن جماعة الإخوان ومن لف لفها هم من سيحصد مكاسب هذه الفوضى «الخلاقة»، وأنهم يلاعبون الجميع من أجل الظفر بهذه اللحظة التاريخية؛ تارة يرفعون شعار الدولة المدنية والحقوق، وتارة يرفعون شعار الثورة مستمرة، وتارة يرفعون شعار الخلافة الإسلامية والولايات المتحدة الإسلامية التي عاصمتها القدس الشريف، حسب المقام والسياق والمناسبة والجمهور المستهدف، وكل هذا مشاهد وموثق، فقط في الشهرين الأخيرين.

قلت في منتصف العام الماضي إن ثمة هلالا إخوانيا جديدا يبزغ من اليمن إلى مصر، وربما الأردن، يتلاقى مع الهلال الشيعي البازغ من إيران فالعراق فسوريا، ولبنان والأردن مناطق تلاقي شفرات هذه الأهلة. وكان الحديث وقتها، من البعض، بكلام شعري ساذج عن «ثورة مدنية» لا مكان فيها للأصوليات، بل فجر مجتمع متحضر وطني جديد. قال هذه التوقعات أناس يُحسبون على النخب العربية أو الغربية، وتبين أنهم إما يفكرون بطريقة رغبوية، أو أنهم شربوا فعلا حيل ودعايات الإخوان المسلمين حول أنهم يؤمنون في العمق بـ«الأساس الفلسفي» لفكرة الديمقراطية.

البعض من هذه النخب استيقظ «متأخرا»، مثل عالم الاجتماع السياسي المصري سعد الدين إبراهيم، فأعلن مساندته لشفيق ضد مرسي، من أجل حماية مدنية الدولة ضد مشروع الدولة الدينية، وقيمة اسم إبراهيم، أنه صاحب مصداقية عريضة في المعارضة السياسية أيام مبارك، فقد كان من زوار سجون العهد المباركي، كما أنه كان من أنصار فكرة منح الإسلاميين الحق في العمل السياسي والمشاركة، والوصول للسلطة، لكنه تنبه لاحقا إلى أن «الإخوان» لا يؤمنون، بشكل عميق، بمبدأ المشاركة إلا على سبيل التكتيك والاضطرار، وفق فقه المرحلة المكية، والمرحلة المدنية.. كما يعرف من يدرك أدبيات «الإخوان»، وقد قال سعد الدين إبراهيم ليلة الانتخاب إنه سمع من جمال البنا، شقيق حسن البنا، مؤسس الجماعة، أن «الإخوان» يعتمدون مبدأ التمسكن حتى التمكن ثم الإمعان في التمكن من السلطة (وهي المرحلة التي نعيشها الآن) ثم التأبيد في السلطة.

أعتقد أن من أسباب ملاعبة «الإخوان» لمن يصنف نفسه من جماعات الفكر المدني أو حماة الديمقراطية، هو إما جهل هؤلاء بأدبيات ومشاريع «الإخوان» الحقيقية، أو غلبة النزعة الشخصية الثأرية من أفراد معينين في الأنظمة السابقة إلى درجة «هدم» الدولة نفسها وهدم فكرة الحرية الشخصية، كما صنع الخميني من قبل بجماعات اليسار والقوميين في إيران، ضد الشاه. أو يكون الدفاع لدى هؤلاء هو ركوب الموجة الشعبوية، والنجومية الثورية.

أن يفرح «الإخوان» ومن لف لفهم في مصر أو خارجها بهذا المقعد الرئاسي، فأمر مفهوم، فهم أهل الشأن، ومن حقهم الفرح، لكن ما لا تفهمه كيف يغني ويصفق من يقول إنه علماني ويدعو لحماية الحقوق والحريات الشخصية والفنون وحرية التعبير والتفكير وكل ما يمت بصلة إلى فكرة الدولة العلمانية؟! هل هو جهل أو تجاهل..؟! لا ندري.

جولة موجزة بهدوء، من القراءة في تاريخ وأدبيات «الإخوان»، حتى القريب منها، كافية للتنور والفهم، عوض التسمر على شاشات الـ«آي باد» والـ«آي فون» لمتابعة ثرثرات «تويتر»، أو الفضائيات الخفيفة. لكن نحن في عصر هش فعلا.

«الإخوان» يدركون هذه الهشاشة ويعملون على استثمارها، بما فيه استثمار الشعارات المدنية الفضفاضة لخلق «جبهة» من التحالفات تغطي على النواة الإخوانية الصلبة، التي لا تظهر إلا لحظة الاستحقاق السلطوي وتوزيع المغانم.

يقول المثقف السوداني، عصام البشير، وهو من الأسماء اللامعة في عالم التنظير الحركي والثقافي لـ«الإخوان» في مجلّة «المجتمع» الكويتية، الناطقة باسم «الإخوان» هناك (عدد 1231) في هذا الشأن: «وهناك كوادر في الساحة لا تقف في موقع الخصم للتيار الإسلامي، وهي محبة لقضايا وطنها، ومن هنا فإنه ينبغي أن يُستفاد من كل القوى والشرائح في المجتمع من خلال مؤسسات المجتمع المدني التي تشكل عامل تأثير على الحكام».

أعرف أن هناك من سيقول: ولكن محمد مرسي جلبته صناديق الانتخابات، وأصبحت له شرعية رسمية.

بالنسبة لي هذا يهم الدول وكيفية التعامل الرسمي عبر القنوات المعتبرة، وأنا أعترف أنه رئيس مصر، من الناحية القانونية الرسمية، بل وأعجبني تهنئة شفيق له، فهذا تصرف حضاري، ونحن يجب أن نحيي بادرة حضارية نادرة كهذه.

لكن التعامل الرسمي أمر، وتقويم المحتوى الثقافي والاتجاه السياسي لهذه الجماعة أمر آخر، القصة ليست مواقف شخصية، بل نظر عقلاني لجماعة أفرزت لنا من بين أخلص كوادرها شخصية محمد مرسي لتولي رئاسة الجمهورية المصرية. وعلى الرغم من دعاية «الإخوان» الصاخبة عن كونه رئيسا مدنيا ثوريا، فإنه - بالنسبة لمن يقرأ جيدا - رئيس مصري ينتمي إلى حركة الإخوان المسلمين إلى قبل يومين من الناحية الرسمية، وسيظل ينتمي له عاطفيا وثقافيا إلى ما شاء الله.

هذه مجرد ملاحظات ورسم بالقلم على خطوط المرحلة المقبلة لفرز الألوان وإعادة التأكيد على ما كان، بصرف النظر عن وصول مرشح «الإخوان» للرئاسة المصرية، فهذا لا يغير من الأمر شيئا، إلا أن «الإخوان» حققوا خطوة جديدة في الانتقال من المرحلة المكية إلى المرحلة المدنية (نسبة للمدينة المنورة لا الفكرة المدنية!).

الآن «الإخوان» جماعة على الأرض بعد أن كانت تمارس العمل من السماء.. سنرى ماذا يفعلون، وليس ما يقولون.

[email protected]