الديمقراطية في الكويت.. التحول الصعب من الشخصنة إلى المأسسة

TT

يتعلم بعض العرب بصعوبة في هذه الفترة التاريخية الانتقال من الشمولية بأشكالها المختلفة إلى الديمقراطية، والأخيرة ليس لها شكل واحد، كما ليس لها جذور عميقة في ثقافتنا، إنما في عمومها - كما تعارف عليها الفكر السياسي الإنساني - ترتكز على عامودين. العامود الأول هو الاعتراف بالتعددية في المجتمع، وهو ما يفرز الاختلاف بالضرورة، والعامود الثاني هو التوافق على إدارة الاختلاف سلميا وحضاريا.

الديمقراطية العربية «غير»، فهي محاولة من طرف «تهميش» الطرف الآخر، أي أنا وليذهب الآخرون للجحيم أو قريبا منه! الأساس هو عدم قبول الاختلاف وتحويله دائما إلى خلاف مستحكم. في الكويت كما في غيرها من بلاد العرب تسيطر مقولة: إما أن تكون معي وإلا فأنت «فلول» أو «خارجي» أو على الأقل «حكومي»، فالاتهام والتسفيه للمختلف جاهز، وتحويل الخصومة السياسية إلى عداء شخصي، التعامل بالشخصانية سهل في ثقافتنا العربية، أما الصعب حتى الساعة، هو الانتقال إلى المأسسة!

في الكويت إن أردنا وصف الحال، فإن الأزمة السياسية لن تكون قد حلت والقارئ يطالع هذا المقال، فهي تخرج من مأزق لتدخل في نفق، وما يقف أمامه الكويتيون اليوم هو في الظاهر خطأ في الإجراءات، تم في أثناء خطوات حل مجلس الأمة الثالث عشر (ويبدو أن الرقم نفسه يحمل شيئا من النحس!) الذي انتخب في عام 2009، ودعوة الناخبين وقتها إلى انتخاب المجلس الرابع عشر في فبراير (شباط) الماضي، والذي قررت المحكمة الدستورية إبطاله الأسبوع الماضي بعد أقل من ستة أشهر.

هذا في الظاهر، ولو حدث ذلك في أي مكان آخر رسخت فيه قواعد اللعبة الديمقراطية لكان أمرا طبيعيا يوصف كعوار قانوني دون ضجة كبيرة، ثم يصلح الخلل. ولكن سرعان ما أدخل البعض تفسيرا لما حدث، البحث في النوايا وتحليل خلفية الحدث على أنه مخطط بسابق تفكير وإصرار، ثم تتناثر الأسباب المعللة وراء ذلك، كل يدلي بدلوه وما يناسبه من تصور، وكلها سلبية. ذاك ناتج من خلل في الثقة في العملية الديمقراطية من جهة، ولكن أيضا من نقص في بناء المؤسسات.

المعضلة ليست هنا، بل في الأسباب العميقة لتعثر الديمقراطية الكويتية على مدى فترة طويلة وهي عنصر «الشخصنة»، فكل التجربة منذ نصف قرن يمكن توصيفها بأنها «الطيران في داخل القفص»! قليلون يلتفتون إلى المراكز أو الأركان الحاكمة في التجربة الكويتية التي يتخللها العوار وتعطل من تطور التجربة، وتغرسها في إطار الشخصنة، وهي في رأيي ثلاثة أركان حاكمة.

الركن الحاكم الأول هو الدستور. فالدستور الكويتي قد تمت كتابته قبل نصف قرن، وقرر في صلبه أن يعاد النظر فيه، ولكن ليس قبل مرور خمس سنوات من تطبيقه، وتطاولت الخمس إلى خمسين، ولا تصحب الشجاعة أحدا اليوم كي ينادي بإعادة النظر في بعض مواد الدستور، من يفعل ذلك يصبه رذاذ التشكيك المغلظ.

الدستور الكويتي هو وثيقة «عقد اجتماعي» كتبه بشر، وتتغير أحوال البشر وكل التعاقدات الاجتماعية السياسية التي كتبت تم تطويرها حسب تطور المجتمع. والمجتمع الكويتي اليوم ليس هو ذاته كما كان حين أقر الدستور، سواء من حيث الحجم أو التطور أو القيم أو أمور ونواح أخرى كثيرة، تجعله مختلفا وغير متطابق مع المجتمع الذي كان في أوائل الستينات من القرن الماضي عند سن الدستور، لقد اختلف كل شيء إلا نصوص الدستور. فالمصريون يكتبون دستورهم الخامس في غضون ستين عاما، والأتراك دستورهم هو الثالث منذ الثمانينات، ذلك على سبيل المثال، ودول كثيرة تقوم بذلك، الاستثناء هو الكويت، لقد سجن المجتمع نفسه في نصوص حولها إلى ثوابت، في حين أن الأصل هو التطوير.

الركن الحاكم الثاني هو قوانين الانتخاب، ليس فقط تغيير الدوائر الانتخابية التي جرب فيها أكثر من مرة، ولكن طريقة وصول العضو المنتخب إلى تمثيل الأمة، فهو (أي عضو البرلمان الكويتي) ينتخب (بمن حضر) أي بأغلبية عددية، وهي طريقة بدائية في النظم الديمقراطية، ففي غالب تجارب الديمقراطية يصبح عضو البرلمان ممثلا لأغلبية الجسم الانتخابي، لذلك هناك في معظم الانتخابات دورتان، لا يصبح العضو ممثلا للأمة إلا بعد حصوله على نصف الأصوات زائد واحد «نظريا» ليتأهل من دائرته الانتخابية ويكون ممثلا للأمة.

هذا الأمر غير معمول به في الكويت، بل وضع نظام أقرب ما يكون إلى تكريس الطائفية الفئوية والمناطقية، فأصبح العضو البرلماني حبيس تيارات دعمته (وقد تكون أقلية نشطة في المجتمع ذات قاعدة ضيقة)، ولا يستطيع ادعاء تمثيل الأغلبية أو الدفاع عن المصالح العامة.

الركن الحاكم الثالث في المعضلة الديمقراطية في الكويت (وأرى أنه الأكثر تأثيرا وتعطيلا) ما يمكن أن يسمى بالتعددية. لا يوجد في العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه، ديمقراطية دون تعددية قانونية، وهي اعتراف بمظهر إنساني طبيعي، حيث تختلف مصالح الناس وتتضارب، وتختلف توجهاتهم السياسية، وبالتالي يتجمع أناس حول من يرون أنه يحقق مصالحهم في أحزاب أو منابر.

أي أن الديمقراطية لها ركنان، لا تحقق دون وجودهما معا، هي صناديق انتخاب وأيضا تعددية قانونية، أي وجود أحزاب أو منابر سياسية ينظمها القانون وتنظم حل مصالح الناس المتضاربة على أن تبعد قانونا عن القبلية والطائفية والدينية والعرقية. إن لم يكن الركن الثاني موجودا (التعددية القانونية) يخلق المجتمع تعدديته التي يعرفها، وهي في الحالة الكويتية تعددية طائفية وقبلية ومناطقية. لا يريد أحد – حتى الساعة – الاعتراف بأهمية تنظيم التعددية. من هنا فإن المفاهيم السياسية التي تمارس في الكويت يكتنفها الغموض الشديد عند الحديث عن «المعارضة»، وقد قيل إن المجلس الذي حلته المحكمة الدستورية هو مجلس فيه أغلبية معارضة، إلا أن المفهوم غير دقيق. فهي معارضة تجتمع في الغالب على السلبي (ما لا تريد) ولكن ليس على الإيجابي (ما تريد) وفي داخلها تناقض، فحتى ما لا تريد تختلف فيه بين أعضائها. مثال كيف يمكن التوفيق بين ما يريده البعض من توسيع للحريات (وهو شعار جاذب) مع ما يريده البعض الآخر من (تضييق) على الحريات، تحت شعارات تراثية؟! وكيف يمكن توسيع الحريات والبعض يغلظ العقوبات في سن قوانين تقريبا شخصية، فقط لأن شخصا ما أصيب في عقله فتطاول على ثوابت يجرمها القانون المرعي؟ وكيف يمكن أن نتحدث عن مساواة والبعض يرغب في أن يصدر قانونا يساوي فيه حامل الشهادة بحافظ للتراث؟ وكيف تستقيم الدولة والبعض يهزأ من شعار الدولة وعلمها، بل لا يعترف حتى باحترام ذلك الشعار؟ إن تعدد مناهج التكوين السياسي لمنسوبي المعارضة، تجعلها معارضة موسمية، من جانب تتسامح مع بعض الخروقات القانونية الفاضحة من أمثال اقتحام مجلس الأمة، التي تنفر الأنصار الطبيعيين للديمقراطية الحديثة، وتجعلها من جانب آخر تتجاوز عن تطبيق القانون المرعي حفاظا على صفها من التفكك الظاهري، بعضها يخلط بين السياسة والوعظ، ولا يجيد أيا منهما! وجود أحزاب يعني عملا أسهل نسبيا للحكومة بوجود عنوان معروف للتفاوض السياسي له رأس يمكن الاتفاق معه، ويعني أيضا التزاما بما تقرره الأحزاب في التوافق أو التنافر السياسي. طوال فترة تجربة الكويت لم يكن للمعارضة عنوان وتتخبط الحكومات المتعاقبة في ظلام دامس مفرط في الشخصانية.

لا تعاني بعض المعارضة قلة الفهم، ولكنها تعاني غياب الشجاعة في مواجهة الاستحقاق الأكثر إلحاحا في الكويت، وهو أن ما هو قائم غير قادر على الاستمرار دون معالجة حقيقية للأركان الثلاثة المعطلة للتجربة الديمقراطية الكويتية المشار إليها سابقا، ستظل التجربة مثل الطيران في القفص، محصورة في غيوتو سياسي تنتقل من أزمة إلى أخرى دون مخرج.

آخر الكلام

كما توقع كاتب هذه السطور أكثر من مرة... إن كرسي الرئاسة في مصر هو لمرسي، بقي أن نتابع التجربة الجديدة وغير المسبوقة، هل تتحول أكبر دولة عربية إلى طريق تنموي فاعل أم تدخل في نفق آخر بعد خروجها من الأول؟ سوف ننتظر لنرى!